"ها نحن.. نحن هنا": ضوء على فن الكنديين الأفارقة

"ها نحن.. نحن هنا": ضوء على فن الكنديين الأفارقة

20 يوليو 2018
(عمل لـ بشرى جنيد، من المعرض)
+ الخط -
من المؤكّد أن مجرّد جعل اللون الأسود مرئياً، حسب تعبير الفنّانة ميشيل بيرسون كلارك، ليس كافياً، لأن الأمر يحتاج إلى التقدّم خطوةً إلى ما هو أبعد من أن تكون مرئياً فقط. بعبارةٍ أخرى، وفي إشارة إلى عنوان معرض فن الكنديّين الأفارقة المعاصر الذي تشارك فيه حالياً في مدينة أونتاريو الكندية.

الأمر ليس مجرّد القول "ها أنذا.. أنت تراني، أنا لستُ كائناً غير مرئي"، بل السؤال عمّا يعنيه التعريف بالكنديين الأفارقة بصرياً؛ هل هو التركيز على الأسى المتجذّر في معاناتهم وآلامهم، أم هو، كما تفعل في صورها الفوتوغرافية وأفلام الفيديو التي تُنتجها، تصوير شخصيات يمتلك أساها جذراً في التوق والإحساس بالخسارة، بل وفي الغضب.

جاء هذا الحديث بمناسبة مشاركة هذه الفنانة، مع عدد من الفنّانين والفنانات الكنديّين من ذوي الأصول الأفريقية، في معرض أطلقه "متحف أونتاريو الملكي" في 12 أيار/ مايو الماضي ويستمر حتى 16 أيلول/ سبتمبر من العام الحالي تحت عنوان "ها نحن.. نحن هنا"، وإشارة دالة أيضاً على ما هو أبعد، على كون هذا العرض يتضمّن مراجعة لـ تواريخ عميقة الجذور ترتبط بالكنديّين من أصول أفريقية.

اللافت للنظر أن مشاركة العنصر النسائي طاغية على مشاركة العنصر الرجالي. لدينا سبع فنّانات هن على التوالي: ساندرا بريستر، وميشيل كلارك، وشانتال جبسون، وسيلفيا هاملتون، وبشرى جونيد، وآرمين لاش، وأسما محمود، وفنّان واحد هو غوردن شادراك، وأضاف لهم "متحف مونتريال للفنون الجميلة" من عنده ثلاثة هم: آدي فيرمن وآ. ك. آ. آنيو ومانويل ماثيو، والفنانة شانا ستراوس.

كل هؤلاء فنّانون معاصرون يواجهون الزائر بحكايات تواصل مسارها السردي، والأكثر أهمية أنها حكايات تتأمّل وتفحص مكان هذه الجماعة في المجتمع الكندي من عدّة زوايا وبأصوات متعدّدة، وتلامس التفسيرات التاريخية والحالية لثقافة وهوية الأفارقة في كندا، وتستكشف قضايا الانتماء إلى الجماعة والاندماج فيها.

إذاً، هو معرض يتخلّى عن فكرة الرواية الواحدة، حيث يغيّر الصيغ السردية وتتعدّد فيه تعابير الفنانين عن وفائهم لأسلافهم. كل واحد منهم يعود إلى زيارة تاريخه الشخصي ذي الصلة بواقعه في مختلف المدن الكندية. ويتزاوج في هذه الأعمال ما هو مبتكر بما هو تقليدي بسلاسة تامة، لأن السياق العام والجامع بينها هو نظرة الفنّانين النزيهة إلى عالمهم وواقعهم، ودعوة المشاهد بإحساس شعري إلى رؤية واقع مجتمع الكنديين من أصول أفريقية والتعاطف معه.

تتناول أعمال المعرض، بالإضافة إلى تعدّد وجهات النظر، موضوعات راهنة وأخرى تاريخية، وصوراً وأفكاراً تمحو الإدراك الراسخ منذ أمد طويل، والقائل بأن وجود ذوي الأصول الأفريقية هامشيٌّ على حافة التاريخ الكندي، أي أنها تمحو الروايات المهيمنة، تلك التي تختزل، على رغم شهرة كندا بكونها تمثّل انتصاراً للتنوّع الثقافي، تجارب الكنديين الأفارقة في حكاية هجرة متواصلة أو قادمين جدد.

هذه الحكاية بالذات هي التي يحاكمها هؤلاء الفنّانون بعرضهم لمتابعات تاريخية عميقة لتجربة الأفارقة في كندا، وتقديم أصوات وحساسيات متنوعة، وتمزيق الروايات التبسيطية المريحة، والتأكيد على صلة الأفارقة الطويلة الأمد بالنسيج الكندي في الوقت نفسه.

عنوان المعرض مستعارٌ من أحد أعمال سيلفيا هاملتون، المكوّن من لفائف تحمل عناصر بصرية على امتداد جدارية بارتفاع 12 قدماً، تمثّل تأملّاتٍ في تاريخ تجارة الرقيق التي كانت أحد الجذور الاستعمارية لما تُعرف الآن باسم الأمة الكندية.

وتكشف الجدارية بالتزامن مع هذا عن الآثار المادية والفكرية للنزعة العرقية المعادية للأفارقة في كندا، كما تكشف عن مرونة هؤلاء وقدرتهم على التكيّف.

ومن أعمال أخرى في المعرض، تعتمد الفنانة ساندرا بريستر، على صور فوتوغرافية قديمة لأمها وأبيها وهما يخرجان في رحلة برية، فيظهران كعملاقين يشرفان على المشهد. وبهذا التكبير المتعمّد للصورة، تتحدّى الفنانة الافتراضات الشائعة حول تجانس وتماثل يسودان مجتمع ذوي الأصول الأفريقية.

وتقدّم شانتال جبسون، التي تعيش في كولومبيا البريطانية، عملاً تركيبياً مكوّناً من وسائط متعدّدة، موضوعته "المحو"، تعرض فيه أكثر من 2000 ملعقة تذكارية سوداء اللون، وتستحضر فيه تجربة جماعية تاريخية لذوي البشرة السوداء، مختزلة روايتها بنمط تماثل هذه الملاعق.

ونجد لدى شارمين لاش المولودة في جامايكا، رسوماً تلتقط فيها تعابير وجه فتاة مبتهجة في مشهد ريفي، وتتميّز الرسوم بانسيابية الحركة، بينما ترمز مشاهد الفتاة إلى إحساس بالانتماء، في الوقت الذي يتزامن فيه مع هذا إحساسٌ درامي بكونها مرئية وغير مرئية، مفهومة أو يُساء فهمها في المكان والزمان، في الماضي والحاضر.

وفي طرف آخر، تستكشف أسما محمود رمزية الملابس، وهيئة التماثيل، متنقّلة من مجال تاريخ العبودية إلى مجال الحقول الرياضية، باستخدام مواد صناعية، والهدف إعادة بحث فهمنا المعاصر للسواد، وتحدّي علاقة السواد كلون وظل، والسواد كإنشاء اجتماعي وثقافي لجماعة من الجماعات. مقولة هذه الفنانة التي تُكرّرها دائماً "إذا لم تبادر وتأخذ الفضاء، فسيأخذه جسد أبيض".

ويثير الانتباه عمل للفنانة ميشيل بيرسون كلارك يُسمّى "سمفونية مص الأسنان"، هو عبارة عن شريط فيديو يركّز على هذه العادة التي يُصدر بها شخص صوت استهجان من بين أسنانه، وهي منتشرة بين سكّان منطقة الكاريبي ذوي الأصول الأفريقية. هذا العمل يشكل رد فعل على إحباطات الحياة، ويُعبّر عن مشاعر الغضب والألم التي جرّبها القادمون إلى كندا من منطقة الكاريبي المفترض حسب النزعة العنصرية السائدة أن يخرجوا من كندا، أو يختفوا.

من هذه اللمحات يمكن أن نستخلص شيئاً من التنوّع الثري الذي يتمتّع به الوسط الفني الأفريقي الأصل في كندا، ويمكن إضافته إلى التنوّع الثقافي الذي هو موضع افتخار كندا الرسمية، إلا أن هذه الخاصية ليست واضحة وضوحاً كافياً، أو هي بمثابة لفظ بلا دلالة واقعية، كما تعترف رئيسة أمناء "متحف مونتريال"، ناتالي بوندل.

تقول بوندل على هامش المعرض: "نحن، هنا، لسنا محصّنين ضد القوالب الذهنية الجامدة، أو التاريخ المبتور. ولهذا، فإن هذا المعرض الجريء ضروري... إنه يثير عدداً من وجهات النظر حول تعقيد تواريخنا المتداخلة وآمادها الطويلة؛ حيث يؤكّد فيه كل فنان على مكانه الحق، ويثري مخيّلتنا الجمالية المشتركة".

المساهمون