ليفيناس قارئاً تسيلان: لغة تُخرجني من ذاتي

ليفيناس قارئاً تسيلان: لغة تُخرجني من ذاتي

04 يونيو 2018
(تمثال لـ تسيلان في تشيرنيفسكي، أوكرانيا)
+ الخط -

قدّم المفكّر الفرنسي إمانويل ليفيناس (1906-1995) للفصل المركزي من كتابه "غير الكينونة أو في ما وراء الجوهر" بجملة من قصيدة الشاعر الروماني الألماني باول تسيلان (1920-1970)، تحمل عنواناً معبّراً: "مديح البعاد" (Lob der Ferne): "أنا أنت، حين أكون أنا". يُتبع تسيلان هذه العبارة، بعبارة أخرى لا تقل عنها توهّجاً: "مرتد فقط، أكون وفياً".

هل نبالغ إذا وصفنا ما كتبه تسيلان بشعريَّة الضعف؟ وذلك ليس لأنَّ النصّ الشعري لديه يظلّ مرتبطاً بالحوار إلى حدٍّ كبير، ويفتح صداه لصوت الآخر. بل إنَّه لم يبالغ أيضاً من يرى أنَّ فكر ليفيناس أقرب ما يكون إلى شعريَّة تسيلان. فما يفعله أحدهما في الشعر، يفعله الآخر في الفلسفة، وهو البحث عن تلك اللّغة التي تخرجني من ذاتي، وتفتح إمكانيَّة الآخر.

يتحدَّث تسيلان عن رؤيته للشعر في "المريديان" كتجاوز للذاتيَّة، قائلاً: "إنَّ القصيدة وحيدة. إنَّها وحيدة وفي الطريق. ومن يكتبها تظلُّ هبة له. ولكن، ألا تقف القصيدة من قبل في اللقاء ـ في سر اللقاء؟ إنَّ القصيدة تريد أن تعبر إلى آخر، تحتاج لهذا الواقف أمامها، تبحث عنه، تكلّمه".

لو صغنا ذلك في كلمات أخرى: إنَّ القصيدة تشعر بالوحدة، لأنَّها ليست وحدها، أو لأنَّها تشترط الأنت دوماً، وهنا يقف تسيلان على النقيض من تصوُّر غوتفريد بِن الذي يدافع في محاضرته الشهيرة: "مشاكل الشعر" (ألقاها في عام 1951 في ماربورغ) عن البنية المونولوجيَّة للقصيدة، يقول فيها: "إنَّ القصيدة المعاصرة تريد أن تكتب عن كلّ شيء، ونفسها المونولوجي لا يحوم حوله شك"، وعلى النقيض من تسيلان، يتابع قائلاً: "... القصيدة المطلقة، القصيدة التي لا إيمان لها، والقصيدة التي لا أمل لها، والقصيدة التي لا تتوجَّه لأحد...".

يذكّرنا غوتفريد بن بهايدغر وأصالته. ولكنَّ القصيدة التي في الطريق (Unterwegs) لا ترتدّ على نفسها. وهي "تحتاج إلى هذا الآخر". تتحدَّث الحاجة عن ضعف، متجاوزة منطق الكينونةـ التي ـ لي وتعطّل تماهي الأنا بنفسها.

ولا عجب، والحال هذه، أن ينطلق كلٌّ من تسيلان وهايدغر من مفهومين مختلفين للّغة. فاللّغة ـ المخاطبة ـ جواب على نداء الضمير لدى هايدغر؛ "إنَّها لغة بدون أنت أو نوع من مونولوغ الدازين"، في حين أنَّ اللغة مناداة على الآخر لدى تسيلان.

ولهذا يمكننا أن نفهم الجملة التي اقتبسها ليفيناس من تسيلان نوعاً من الهجرة إلى الآخر، وتعبيراً عن سلبيَّة، عن رغبة وعن تجربة التيه أو البعاد. أو كما كتب ليفيناس في نصّه القصير عن شعريَّة تسيلان: "تقوم القصيدة بخطوة أكثر. الغريب هو الأجنبي أو القريب. فلا شيء أكثر غرابة وأجنبيَّة من الإنسان الآخر، وفي وضوح اليوتوبيا يتمظهر الإنسان، خارج كلّ تجذّر في المكان وكلّ سكن. أن تكون بلا جنسيَّة، هذه هي الأصالة".

المساهمون