"حركة مقاطعون": عودة جماعية إلى الماء الطبيعي

"حركة مقاطعون": عودة جماعية إلى الماء الطبيعي

11 يونيو 2018
(من مسيرة ضد الغلاء، مايو 2018، تصوير: رافئيل مارشانت)
+ الخط -

بدأ الأمر من خلال دعوة مفتوحة على الفيسبوك إلى مقاطعة سلع استهلاكية في المغرب، ضمن احتجاج على غلاء المواد الغذائية. غير أن كرة الثلج سرعان ما أخذت تكبر وتنمو، إلى أن دفعت الشركات الكبرى والفاعلين السياسيين إلى الخروج عن صمتهم، وأصبح الجميع يعترف بأن لمسألة المقاطعة هذه آثارها السياسية والاقتصادية، وهي التي لا تزال متواصلة إلى اليوم.

كأن "حركة مقاطعون" نبّهت كثيرين إلى سلطة الوسائط الاجتماعية اليوم، في قدرتها على أن تتحوّل إلى "سلطة مضادة"، بعيداً عن الأحزاب والنقابات، وفي الأثناء تشير إلى فشل هذه الأخيرة حيال هكذا قضايا.

لقد فعلت المقاطعة فعلها وأثّرت في "لوبيات" وشركات اقتصادية قوية ودفعتها إلى مراجعة أسعارها، وهو ما يثير العديد من الأسئلة، كيف يمكن النظر إلى هذا الوضع من وجهة نظر سوسيولوجية؟ هل تعتبر المقاطعة "تثويراً" و"تطويراً" للفعل الاحتجاجي في المغرب؟ هل يمكن الحديث عن أسلوب احتجاجي جديد اليوم قادر على التأثير؟ إلى أي حد ينبئ أسلوب المقاطعة وتعامل المقاطعين إلى تحول جذري في الوعي السياسي والثقافي عند المغاربة؟

"العربي الجديد" استطلعت في هذا الشأن عدداً من المثقفين المغاربة. بداية، يرى الناقد حسن المودن، أن المحتجين أعطوا لكلمة "المقاطعة" معنى جديداً. يقول: "وكأن الهدف من هذا الفعل الاحتجاجي هو أن تحلَّ كلمة "المقاطعة" بمعناها الجديد (الإمساك الاقتصادي عن..؛ الامتناع عن التعامل الاقتصادي مع..) محلَّ كلمة كان لها معنى يشير إلى مؤسسة أمنية هي الأصغر في الهرم المؤسَّسي، لكنها الأقربُ إلى الناس، إلى المواطنين؛ المفروض أنها تحافظ على الأمن وتمارس الضبط، وكأن الهدف هو استردادُ الكلمة من مؤسّسات الدولة الضابطة للمجتمع من أجل منحها معنى آخر صادر عن الشعب".

وترى الصحافية والشاعرة عائشة بلحاج، من جهتها، أن "المقاطعة سلوك ديمقراطي، ومن الجيد أن ينتشر الوعي به على هذا المستوى الموسّع" وتضيف: "ربما تكون النتيجة الأكثر تأثيراً للمقاطعة هي خلخلة الكثير من الجمود الذي يطبع ردّ فعل الأفراد تجاه السلطة بكل تمثلاتها. إذ أن هذا الحراك يؤكّد أنهم أصبحوا أكثر تفاعلاً، وأكثر قدرة على التّجاوب المستقبلي مع تفاعلات القرار السياسي والاقتصادي؛ خاصة مع التزايد التّدريجي للإقبال على الفعل الاحتجاجي بكل أشكاله".

ويتجه الناشط الحقوقي سعيد غيدي إلى اعتبار "حركة مقاطعون" امتداداً لتراكم الفعل الاحتجاجي في المغرب، لكن لا يمكن الحديث عن المقاطعة "بمعزل عن سياقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إذ ساهم فيها العامل التاريخي بشكل كبير، بفعل تراكم فعل الاحتجاج، عبر حركات جماهيرية واكبت السياسات العمومية، انتهاء بتجربة "20 فبراير". لكن الأهم هو ترسيخ ثقافة الاحتجاج بشكل سلمي وحضاري".

واللافت في "حركة مقاطعون" اختيارهم وتركيزهم على "السوائل" (الماء والحليب). يضيء المودن هذه الخصوصية حيث يقول: "لماذا السوائل بالذات؟ لا حياة في جسم لا تجري فيه سوائل ومياه. لهذين السائلين، رمزية كبرى في المحكيات الدينية والأسطورية والأدبية. والرسالة التي يوجّهها المقاطعون هي أنهم قادرون على الامتناع حتى عن الأشياء التي تمثل مصدر الحياة من أجل إسماع أصواتهم".

يتابع المودن قائلاً: "إن مقاطعة الماء المصنَّع قد تعني أن المقاطعين قد يعودون إلى المياه الطبيعية. لكن ذلك قد يكون له معنى أعمق عندما يتعلق الأمر بالحليب. ربما هو دعوة إلى العودة الرمزية إلى الحليب الأصلي.. أليس الأصل هو حليب الأم؟ وماذا يعني ذلك: ألا يعني تمرداً على الأب وقانونه الذي يفرض حليباً مصنَّعاً؟ أليس ذلك تمرّداً على هؤلاء الآباء المزيفين والذين هم صنيعة الاقتصاد والسياسة؟".

فكرة تتقاطع مع ما أشارت إليه بلحاج، وهي تقرأ فعل المقاطعة على عدة مستويات، خصوصاً حين تتحوّل من مقاطعة جزئية، إلى مقاطعة عقابية شاملة وفعلية تمسّ الحياة اليومية، حيث تقول: "التحدي الحقيقي على الأرض، المقاطعة ليست عملية علنية فقط بمعنى أن نكتب جميعاً في وسائل التواصل الاجتماعي عبارة "إننا مقاطعون"، بل هي فعلٌ يتطلب إصراراً يومياً مستمراً". وهو ما يذهب إليه غيدي حين يقول: "صحيح أن شبكات التواصل قد سهّلت عملية التأثير في المتعاطين لها، لكن الرهان سرعان ما يصبح واقعاً".

تعود بلحاج وتعتبر أن تأثيرات "نتائج المقاطعة، على الوعي الجمعي للمجتمع المغربي غير مسبوقة، وتشكل لبنة إضافية نحو المجتمع/المواطن الذي يستطيع أن يواجه اللّوبيات الاقتصادية التي تخنقه، وتجاه السّلطة بكل أشكالها، خاصة سلطة المال التي تغوّلت أكثر من أي وقت مضى". وفي نفس السياق، يرى غيدي أن ما يحدث "شكل راق من التعبير على رفض المغاربة لثقافة الاحتكار لبعض شركات المواد الأساسية كالحليب والمحروقات والمياه المعدنية، وحمولة الخطاب الذي تأسس عليه هذا الرفض الجماعي هو الذي يسّر انتشار هذه الثقافة".

وعن طبيعة الفئة المحرّكة للاحتجاج ومواصفاتها، يشير غيدي إلى "أنهم شباب مثقف، لهم خطاب ذو مضمون سياسي محترم، ولديهم طرق جد مقنعة ومرنة في صناعة محتوى خطابهم، وفي تحديد الفئة المستهدفة به، وفي ابتكار أشكال جديدة تتماشى مع سياقات مختلفة" وهو يعتقد أن هذا الخطاب بالذات قد أثّر حتى على خطاب رجال السياسة، داخل البرلمان أو أعضاء الحكومة، وإلا سيجدون أنفسهم ضحايا الخطاب الخشبي والأرعن.

لعل هذه القدرة على التأثير هي من أبرز مخرجات الحركة الاحتجاجية، علاوة على بعدها السلمي وبقائها بمعزل عن المنطق النقابي أو الحزبي، وهو ما يُظهر نشوء وعي إبداعي وفكري جديد، عند فئات وشرائح اجتماعية تحسن توظيف الوسائط الاجتماعية في إيصال أصواتها. ولعلنا نكتشف من خلال الإضراب عن شراء بعض المنتوجات، ميلاد قوة تأثير فاعلة في المغرب تعرف كيف تتنقل برشاقة بين الافتراضي والواقعي.

دلالات

المساهمون