لكن حبّ من سكن الديارا

لكن حبّ من سكن الديارا

18 مايو 2018
شوقي شمعون/ لبنان
+ الخط -

لا تزال كلمة الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا تثير الفزع في نفوس الكثيرين حين قال: "إن الوطنية فضيلة رائعة لدى الجنود والبيروقراطيين، غير أنها فقيرة في مجالات الأدب". وذلك "لأن الأدب بصورة عامة، والرواية بصورة خاصة، معبّران عن عدم الرضا". ثم أضاف ـ وهذا سبب آخر للرعب ـ إنه "يجب عدم الثقة بالروائيين الذين يمتدحون بلادهم".

هي ضربة من العيار الثقيل لكل المعايير والمبادئ التي تربّت عليها أجيال من العرب طوال القرن العشرين الذي أخذت فيه هذه كلمة "الوطنية" غناها المعرفي والسياسي والفكري.

على أن هذه المفردة استخدمت أحياناً في العصر العربي الحديث لتقريع الآخر، أو تأديبه، أو تجريحه، أو تخوينه، وما من خلاف سياسي لم يختتم أو يبدأ في واقع الأمر بتهمة اللاوطنية التي يطعن بها الواحد الآخر.

والأمر نفسه يحدث على جبهة الثقافة، وربما كانت تهمة الولاء للأجنبي أكثر فكرة تم تداولها في السجالات العربية حول أي مسألة من المسائل التي تتعلّق بنظام الحكم أو بتوزيع الثروة أو بالمرجعيات الثقافية، ولهذا وجدنا من يخوِّن علي عبد الرازق، ويتهمه بالولاء لليهود والمستشرقين، لمجرد أنه كتب "الإسلام وأصول الحكم". وتعرّض طه حسين للطعن في وطنيته وفي دينه لمجرّد أنه كتب "في الشعر الجاهلي".

غير أن محمد محمد حسين (1912 - 1982) يعتقد أن بوسع الباحث في تاريخ الأفكار والثقافة أن يتحدث عن نسبية الانتماءات الوطنية، أو عن نسبية التعبير عن الوطنية بكل طمأنينة. بل يبدو أنه قد ألف كتابه الضخم "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" من أجل توضيح هذه الفكرة التي تجعل من الممكن الدفاع عن أسماء أدبية كثيرة في التاريخ العربي المعاصر، تعرّضت للاتهام في وطنيتها وفي مدى ولائها لشعوبها وأوطانها، ومن بينها أسماء شهيرة جداً مثل أحمد شوقي الذي حمل لقب أمير شعراء العرب.

نسبية الوطنية في نظر المؤلف ناجمة عن أثر المتغيّر التاريخي في حياة المفردات. فولاء أحمد شوقي مثلاً للترك في زمنه يعني مناهضة الاحتلال الإنكليزي لمصر، وهو ما يجيز له أن يمدح مصطفى كمال أتاتورك قائلاً له: "يا خالد الترك جدّد خالد العرب". فيما يمكن أن تكون هذه القصيدة بالذات سبباً في الطعن بوطنية الشاعر، دون أن تشفع له قصيدة أخرى قال فيها :"وطني لو شغلت بالخلد عنه/ نازعتني إليه في الخلد نفسي".

الطريف في الأمر أن الوطنية تستبطن أيضاً معنى التخلّي عن الحقوق الأساسية للمواطنة في نظر المتشددين الذين يؤكدون أن على المرء ـ المواطن بالطبع ـ أن يتخلى عن حقوقه كافة إذا استدعاه الوطن. في هذه الحالة يبدو الوطن دائماً أهم من المواطن، ولهذا ظلّت الأنظمة الحاكمة، خاصة في منطقتنا العربية، في حالة تأهب دائمة لقضم تلك الحقوق وانتهاكها بذريعة شعار "الوطن في خطر".

ولكن كيف يمكن أن نحاسب قيس بن الملوح الذي قال: "وما حبّ الديار شغفن قلبي/ ولكن حبّ من سكن الديارا"؟.

المساهمون