مسؤولية ماركيوز

مسؤولية ماركيوز

11 مايو 2018
(هربرت ماركيوز)
+ الخط -

اقتنيتُ كتاب محمود أمين العالِم "ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود" حين صدر عن "دار الآداب"، في أول السبعينيات من القرن العشرين، وكان الكتاب قد استطاع أن يحسم حيرتنا تجاه فكر هربرت ماركيوز الذي كان يشهد حضوراً لافتاً في الوسط العربي كله آنئذ.

وكان ذلك المفكر قد ظهر منظراً للثورة الشبابية، ومرشداً للطلاب الثوار في ساحات المدن الأوروبية. وقد تُرجم كتابه الشهير "الإنسان ذو البعد الواحد" إلى اللغة العربية، وانتشر انتشاراً واسعاً في أوساط المثقفين والطلاب في المرحلة الثانوية والجامعية، وقد بدا العنوان شديد الجاذبية، بقدر ما كان شديد الغموض بالنسبة للفرد العربي بسبب توجّهه إلى قارئ آخر، ولدي شكوك في ما إذا كان كثيرون قد قرؤوه تلك الأيام.

وحين أردت أن أعيد قراءة كتاب العالِم، بعد مرور كل تلك السنوات، فاجأتني المقدمة الصاعقة التي كتبها آنئذ للكتاب. وهي واحدة من أكثر المقدّمات غضباً وتشدداً وغلوّاً في الهجاء، والمهجو هنا هو الفكر العربي الذي يصفه بأنه: "فكر مأزوم، يتسم بالشتات الفكري، والتخليط الفكري، والانتقائية الفكرية، والميوعة الفكرية، والتسطيح الفكري".

وقال "إن عصرنا العربي سقاط موائد فكرية، وفتات أكلات ثقافية، نكتفي منها بالتشدّق بالمعرفة، ولوك الشعارات الطنانة". هذا هو تقييمه للفكر والثقافة العربيين حرفياً، وهذه هي المفردات التي استخدمها، ولم يستثن في هجائه المرير أحداً، أو نظرية غير الفكر الماركسي وحده.

وفي الغالب فأنت لن ترى في هذا الهجاء تحليلاً علمياً لظاهرة الأزمة أو الفكر العربي المأزوم، ولن تقرأ عن الكيفية التي انحدرت إليها الثقافة أو سبب ذلك الانحدار، ولن تجد من يتحمل المسؤولية عن هذا الخراب العام الذي يخيّم على بلادنا العربية في جميع جوانب الحياة. وكل ما تجده هو نوع من الشتم المازوشي الذي لا تنجم عنه نتيجة بناءة واحدة.

واللافت في الأمر أن الناقد يكاد يحمل المسؤولية للأفكار بدل أن يحملها لمن سعى بقوة قضبان السجون والمطاردة لتدمير الأفكار ومنعها من أن تصبح قوة مادية في يد الساعين إلى بناء بلادهم، وليس في المقدمة اللاهبة إشارة واحدة إلى النظام العربي السياسي.

وها هي السنوات تضع كتابة العالِم أمام الحقيقة الكاشفة: لم يكن ماركيوز السبب في خراب البلاد العربية، لا، وليس سارتر أيضاً، ولا برغسون ولا فرويد، ولا هيغل. ولم يتمكّن ماركس أو الماركسية من عمل شيء ذي نفع بحسب الآمال التي كان العالم يرجوها منهما في المقدمة ذاتها، بل إن المسؤولية تقع على عاتق هؤلاء الذين بيدهم السلطة، وبيدهم تقييد الفكرة، وبيدهم منعها من التفتح والعمل.

ها نحن بعد أكثر من خمسة وأربعين عاماً من كلمات العالِم، نذوق طعم الهزائم على يد أولئك الذين أُعفوا من تحمّل المسؤولية، وتغاضى المثقف عن أدوارهم.

وقد اختفى ماركيوز بالذات من التأثير في الحياة الفكرية العربية منذ زمن بعيد، وربما لن يعود ثانية، وقد يكون درسه الأهم هو المدى الذي يمكن أن نتعلّم فيه من الأفكار بدل أن نحمّلها المسؤولية عن عجزنا.

المساهمون