رؤساء لا يكتبون

رؤساء لا يكتبون

28 ابريل 2018
محمد عمران/ سورية
+ الخط -
مؤخراً، أصدر الرئيس الفرنسي السابق، فرنسوا هولاند، سيرته الذاتية. ومن قبله ألّف نيكولا ساركوزي كتاباً يصف فيه ولايته الرئاسية. وكذلك فعل من قبلهما جاك شيراك، دون أن ننسى كتابات فرنسوا ميتران وجيسكار دي ستان وصولاً إلى شارل دي غول، حتى نقتصر على رؤساء فرنسا في ظلِّ الجمهورية الخامسة.

تمزج هذه الكتب، الجانحة لأسلوب السيرة الذاتية، بين التأريخ والتحليل السياسي. وتصاغ بأسلوب أدبي لا يخلو من لطافة التعبير. وقد تبث خلال صفحاتها مجموعة من النوادر التي عاشها الكتّاب، فيها انتقادات لاذعة أو ذكرياتٌ لافتة. ووظيفة هذا الجنس الكتابي، وهو في بابه فريدٌ طريفٌ، إعانة القارئ على استيعاب خصائص المرحلة التاريخية التي مرّت بها فرنسا خلال فترة حكم ذلك الرئيس، وتقديم كشف حسابٍ ذاتي وتقييم شامل لسياسة البلد وتوجهاته خلالها.

وقد دفعتنا ملاحظة هذا الجنس إلى التساؤل عما يكتبه الرؤساء العرب بعد أن ينهوا فترات حكمهم ويتحلّوا بلقب "الرئيس السابق". وعند البحث عن سير الرؤساء العرب، لفتنا، بل صدمنا، غيابُها بل غياب لقب الرئيس السابق في العالم العربي، فكل القادة السابقين، منذ فترة استقلال الدول العربية، وعلى الأقل في الأنظمة الرئاسية، ينهون حياتهم بين وضعيات "المخلوع" و"المعزول" والسجين والقتيل. وآخرون لا يعلم حتى أين يثوي رفاتهم. 

والمحظوظون منهم يفرّون بجلودهم إلى ملاجئ سرية، توفرها بعض الدول لغاياتٍ في نفس يعقوب. وهكذا، لم ينه رئيس واحدٌ فترتَه الرئاسية بسلام، ولم يشارك أيٌّ منهم في الفعاليات الوطنية التي تجمع كلَّ الرموز، ولو بشكل شرفي، وهذا أول المعضلة.

أما من سمحت له الظروف وبقي على قيد الحياة، فقلّ من يمتلك ناصية الكفاءة التحريرية اللازمة لتدوين سيرته وصياغة قراءةٍ موضوعية للمرحلة التي عاش فيها. وتُعلل ظاهرة غياب التأليف السياسي بالمستوى المعرفي-الثقافي الذي يميز فئة الذين تولوا الوظيفة العليا في الدول العربية، وغالباً ما يتبوّأونها إما إثر انقلابٍ أو حرب أو ثورة داخلية. فلم يكونوا في غالبيتهم خرّيجي جامعاتٍ أو مدارس كبرى، ولا حتى أصحاب شهادات عليا، تؤكد مستوياتهم اللغوية والفكرية، ولا تسعفهم ثقافتهم على اتخاذ مسافة نقدية من واقعهم.

وقد يفسّر هذا الغياب بضمور، بل بغياب، الثقافة الإنسانية (علم الاجتماع، علم النفس، اقتصاد، تاريخ، فلسفة...) لدى بعض الحكام العرب، الذين يمارسون هذه الوظيفة غِلاباً، ويحرسونها بمتاريس البوليس من دون الاستناد إلى أية مرجعية فكرية، قد يصدرون عنها إن رغبوا في الكتابة أو طمعوا في تأويل الواقع وتحليل طبقاته المتراكبة.

على أنَّ جوهر المشكلة يكمن في استحالة تعايش التفكير النظري بالتوازي مع الممارسة السلطوية. فالكتابة، تعبيراً عن جهود الذهن، تمكِّن من مساءلة الذات والغوص في جذور قراراتها، وتعين على نقد الموقف وإعادة بنائها من خلال اللغة الناظمة والمنتظمة في نسيج استدلالي، حجاجي أو حتى سردي. وهي جهودٌ تتنافى مع ممارسة السلطة في هذه البلدان، وقد شبّهها علي عبد الله صالح بأنها "رقصٌ على الأفاعي".

فلا التفكير النقدي يبيح هذه الممارسات القمعية، ولا هذه الأخيرة تسمح بانبثاق خطاب يستعيد حركة التاريخ يقرأها ويشرحها ويعرضها بنزاهة الاعتراف وصدق الشهادة.

كتب بعض القادة العرب نصوصاً مثل روايات صدام حسين. اعتبرها النقاد بروداً لا طائل وراءه. وصاغ بعضهم الآخر خطابات لافتة، مثل الحسن الثاني أو الحبيب بورقيبة، ولكنها خطابات استثنائية، لا ترقى إلى تشكيل لبنةٍ في صرح الممارسة الديمقراطية، لتقديم حصيلة ختامية (Bilan) يعرضها أعلى مسؤول أمام مواطنيه وأمام التاريخ، وكشف خبايا حياته وسمات المرحلة التي تولى فيها أمور شعبٍ بأكمله.

علينا أن ننتظر أن يحصل القادة العرب على وضع "رئيس سابق"، وربما علينا أن نترقب أكثر لنقرأ بعدها ما عساهم يكتبون.

المساهمون