زيدان كفافي.. ثغرات قاتلة في دراسات القدس الأثرية

زيدان كفافي.. ثغرات قاتلة في دراسات القدس الأثرية

03 مارس 2018
(منطقة حفريات خارج سور القدس من جهة "جبل الزيتون")
+ الخط -

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ابتدأت أعمال التنقيب في مدينة القدس وتوالت خلال فترة الاستعمار البريطاني، لتتضاعف بعد وقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي الثاني عام 1967 على يد آثاريين غربيين وصهاينة. كان ذلك التنقيب يحمل التوراة بيد والمعول بيد أخرى.

هذه الخلفية الأساسية التي يتكئ عليها أستاذ الآثار والباحث الأردني زيدان كفافي (1950) لفهم تاريخ المدينة المقدسة ضمن رؤية شاملة لنشوء الحضارة وانقطاعاتها في المنطقة الواقعة بين جنوب تركيا والهلال الخصيب ومصر والجزيرة العربية، في محاولة لبناء تصوّر يسدّ الثغرات في الدراسات الأثرية حولها.

يذهب في محاضرته التي أقيمت مساء الأربعاء الماضي في "الجمعية الأردنية للبحث العلمي" في عمّان، بعنوان "القدس في العصرين البرونزي والحديدي: الأسفار التوراتية مقابل النصوص التاريخية والآثار" إلى التأكيد على مأزق "يتعلّق بعدم وجود حفرية عربية واحدة في المدينة"، وفق تعبيره.

يقف صاحب كتاب "بلاد الشام في العصور" (2011) على بعض المرويات الدينية ليفكّك حضورها كحقائق راسخة شرقاً وغرباً، وإظهار تناقضها الواضح مع الكشوفات الأركيولوجية، وفي مقدّمتها خروج اليهود من مصر وتيههم أربعين عاماً قبل أن يدخلوا أرض فلسطين، حيث يلفت إلى أن جميع النقوش في الحضارات المصرية كانت تروي كل حدث يقوم به الفرعون صغيراً كان أو كبيراً، لكنها لم يرد فيها مطلقاً ما يشير إلى ملاحقته لقبائل بني إسرائيل وإخراجها من بلاده.

ثم يتناول تسمية "يبوس" نسبة إلى اليبوسيين التي وردت في التوراة، فيرى أن لا وجود لها خارج العهد القديم بالرجوع إلى سكّان القدس في تلك الفترة وغالبيتهم من الكنعانيين أو الأموريين وغيرهم، كما أن توصيف المدينة بأسوارها وحصنها لا ينطبق على حالتها في الزمن الذي يفترض فيه دخول اليهود إليها.

مقابل ذلك، فإن النصوص التاريخية المؤسِّسة لتلك الحقبة، وأهمّها "نصوص اللعن" الفرعونية التي كتبت في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، تتضمّن أقدم ذكر للمدينة المقدّسة وبأشكال متعدّدة، بحسب كفافي الذي يوضّح أن أسماء حكّامها هي سامية شمالية، وبالتحديد أمورية، وهم من القبائل التي هاجرت من الجزيرة العربية، بناء على تفسير علماء مثل كنيث كتشن ووليم أولبرايت وهانك فرانكن.

ويلفت إلى الترتيب الزمني المتسلسل لنتائج الأبحاث الميدانية في القدس وما حولها، أظهر بدء الاستيطان البشري في سفوح جبل الزيتون في الفترة الممتدّة بين 400 ألف سنة و25 ألف سنة مضت من خلال العثور على أدوات صوانية، وعثر على مثيلاتها في منطقة البقعة غرب المدينة تعود إلى خمسين ألف سنة، وأحدثها في شعفاط تعود إلى العصر الحجري (4500 – 3900) ق. م، بعد أن حطّت رحالها قبائل رعوية في وادي سلوان وبالقرب من عين الماء المعروفة باسم "ستنا مريم"، حيث وجدت تلك المكتشفات في الكهوف المحفورة في الصخر.

يتابع كفافي: "قامت تلك القبائل في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد ببناء أول مسكن لها في نفس المنطقة مكوّن من غرفة واسعة، مشكّلة بذلك نواة لقرية لم تصل مستوى المدينة خلال الألف الثالث قبل الميلاد، وأن ما تمّ العثور عليه في في الفترة المؤرّخة بين 2400- 2000 ق.م لم يخرج في معظمه عن كونه مجموعة من المدافن".

ونتيجة للحفريات الأثرية التي قامت بها كاثلين كنيون عام 1966، إن بداية القدس كمدينة محصّنة لم تكن إلا خلال القرن التاسع عشر قبل الميلاد حيث اكتشفت جداراً سمكه ثلاثة أمتار تم تدعيمه بدعامات حجرية، لكن هذا الاستنتاج لم يثبت إلى اليوم حيث يرى كثير من الدارسين أنها جزء من جدران لمبانٍ سكنية وفق تصميمها.

يعزو كفافي عدم وجود مكتشفات تدلّ على مدينة تُسمّى "أورشاليم" بحسب الوصف التوراتي، إلى وقوع منطقة جنوبي بلاد الشام تحت السيطرة الفرعونية في تلك الفترة، وبسبب فرض الضرائب الباهظة على سكانها، اضطر كثير منهم إلى الهجرة منها، وبذلك لم تخرج تلك الكشوفات سوى ببئر ماء هنا وقبر هناك ومصاطب حجرية حتى انتهاء العصر البرونزي.

ينتقل صاحب كتاب "أصل الحضارات الأولى" (2005) إلى المرحلة الأولى من العصر الحديدي (1200 – 1000)، حيث يؤكّد أن لا ذكر للقدس في السجلات والوثائق المدوّنة، وحتى الآثار المكتشفة فيها التي تعود إلى هذه الحقبة لا تعطي الانطباع بوجود مدينة كبيرة، إلا أن المحاضِر يشير إلى أنها تحتاج إلى مزيد من البحث؛ إذ تُنسَب "مملكة داود" إلى تلك الفترة بحسب التوراة.

لا يمكن إغفال مسألة مهمة، بحسب كفافي، تتمثّل بأن منطقة بلاد الشام ظلّت نهباً لغزوات من بلاد الرافدين شرقها، ومصر غربها ولتدمير جيوشها مدناً كثيرة، لكن القدس لم تكن ذات أهمية سياسية في تلك المرحلة فلم يذكر اسمها ضمن المدن التي حاربها الفراعنة، وأن المصادر الآشورية غفلت عن ذكر اسمها أيضاً حين سيطر الآشوريون على المنطقة.

يخلص صاحب كتاب "الأردن في العصور الحجرية" (1990) إلى أنه لا يوجد نص تاريخي مكتوب قبل السبي البابلي يذكر أن "أورشاليم" كانت عاصمة، وأن مملكتي يهودا والسامرة قامتا لمدة لا تزيد عن ستين عاماً لكنهما خارج القدس الحالية، بعد أن سقطت الإمبراطوريات الكبيرة (في وادي النيل، وبلاد الرافدين، وبلاد الأناضول)، مما أتاح الفرصة لظهور مجموعة من الممالك في سورية، إلى جانب الآراميين، والفينيقيين، والعمونيين، والمؤآبيين، والأدوميين.

كما أن سكّان القدس خلال تلك الفترة كانوا خليطاً من الكنعانيين والأموريين والهكسوس، وهي بذلك لم تخرج عن مثيلاتها من المدن المعاصرة في بلاد الشام، وإنها كانت قبل ذلك مجرّد قرية صغيرة.

المساهمون