الكتب الإسلامية في ساحات الجمهورية

الكتب الإسلامية في ساحات الجمهورية

23 مارس 2018
(صورة لمقرر دراسي فرنسي في التاريخ، تصوير: سيبستيان سوريانو)
+ الخط -

على امتداد المنطقة الناطقة بـاللسان الفرنسي، (فرنسا، بلجيكا، جزء من كندا، عدد من البلدان الأفريقية) يشكّل القارئ المسلم سوقًا خاصةً، ينشط فيها تداول الكتب العربية المترجَمة إلى الفرنسية، أو المُحرّرة مباشرة في هذه اللغة. وفي قائمة العناوين المتاحة، يحتلّ الكتاب الديني الذي يتّخذ من الموضوعات والقضايا الإسلامية المرتبة الأولى في المبيعات دون منازعٍ، طبعًا إذا استثنينا النتاج الأدبي بأجناسه، وأبحاث العلوم الإنسانية بفروعها.

إذ من الملاحظ أن النصوص الدينية، التي تكتب وتنتشر بلسان موليير، تنقسم إلى فئتين أساسيتيْن: تشمل الفئة الأولى الكتبَ المُترجمة، وغالبها منحدرٌ من كتب التراث الإسلامي، التي صار الشباب الفرنسي المسلم يُقبل عليها بنهم شديدٍ، بسبب تأكيد الدعاة عليها، والإحالة إليها في خطبهم ودروسهم.

وقد بات اليوم من المعلوم أنَّ الجهات السياسية الرسمية هي التي تتولى تمويل اختيار هذه الترجمات والتسويق إليها، وهو ما تضطلع به المراكز والملحقيات الثقافية في ديار الغرب. وأكثر هذه الكتب تداولاً وأشدها تأثيرًا كتب علماء المذهب الحنبلي مثل ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم، وهي منتشرة في المكتبات التي تتركّز في أحياء بعينها من باريس وبلجيكا ومونتريال.

كما تلاقي الكتب ذات المنزع الصوفي رواجًا كبيرًا لدى القارئ الغربي. ومن علامات حضورها، تخصيص مكتبات بأسرها لهذا الفرع من المعارف، توفّرت على ترجمة الأدبيات الصوفية وشرحها ونشرها. وتحتلّ كتب الإمام الغزالي المرتبة الأولى، ولاسيما موسوعته "إحياء علوم الدين"، التي جرى تقسيمها إلى أجزاء قصيرة، بسيطة الحمل، وترجم كل واحدٍ منها على حدة، مع توطئةٍ وتعليقات.

ومن جهة ثالثة، نلاحظ شيوعَ كتب الفقه، على اختلاف مذاهبه، مع حضور أوضح للمدرسة المالكية، باعتبار أن الجالية المغاربية، ذات الحضور الأكثر كثافة في بلاد المهجر الفرانكفوني، تتبع آراء إمام دار الهجرة، وتشير إليه في دروسها، مما قوّى الحاجة إلى ترجمة أهم مدونات التراث المالكي، بما فيها من مُتون وشروح ومختصراتٍ، وحتى المطوّلات.

وتجدر الملاحظة هنا إلى بزوغ فرع جديد من هذا الفن الإسلامي العريق، يتمثّل في ترجمة كتب موضوعية حديثة، كتلك التي تعنى بموضوع واحدٍ دراسةً وعرضًا مثل مواضيع الحجاب، والمالية الإسلامية وأحكام العائلة، وحقوق الأزواج...

وباستثناء حالات قليلة، تتّسم هذه الأعمال بعدم دقّة الترجمة، وابتعادها عن المعايير العلمية الصارمة التي كان المستشرقون، وتلامذتهم من العرب يراعونها في ترجمة النصوص القديمة وفق المنهج الفيلولوجي. وغالبًا ما تتّبع أسلوبًا تمجيديًا، أثناء التقديم والتحليل، مع خلوّها من الحس النقدي، والجهاز التعريفي الذي يسهم في توضيح الإطار التاريخي لتلك المقولات، بعد أن صار جلّها غير متلائم مع الأوساط العربية الراهنة، فضلاً عن ملاءمته للواقع الفرنسي.

وإلا ما معنى ترجمة فصول معقّدة حول أنواع الماء الطاهرة التي تجري في الأودية؟ وما الفائدة من تقديم أحكام العبيد والعتق؟ أو كيف نسوِّغ ترجمة الفصول الخاصة بالفقه الجنائي، في الكتب القديمة، وهل من "الحكمة" أن ننقل الشروط المعقدة لقطع اليد، لقارئ فرنسي؟

وتفسّر الرغبة في تحقيق الأرباح التجارية السريعة، اللجوء إلى مترجمين لا يتوفّرون على الكفاءة اللازمة، فجلهم من الطلبة الذين يؤدون خدماتهم بأسعار زهيدة، هذا إذا أغضينا الطرف عن المسائل المعرفية والألسنية التي تثيرها قضايا ترجمة النص الديني القديم، وتجريد مفاهيمه الأساسية، مما يجعل الترجمة والنقل أقرب إلى التبسيط المفضي حتمًا إلى مسخ الفكر وإفراغه من مضامينه الأصلية. ويكفي أن ندلّل على ذلك بصعوبة، بل باستحالة ترجمة مفاهيم مثل: "الهدى"، و"الرحمة"، و"العبودية" وحتى "شريعة" إلى اللغات الأوروبية.

ولعله بسبب من هذا التنافر، نشطَ الكتّاب المسلمون، من أصل عربي، في الكتابة حول الشأن الديني بالفرنسية مباشرة، مثل الطاهر قائد Tahar Gaid الذي ألف كتابًا يقع في جزئَيْن، و1885 صفحة عَنْونه: "الموسوعة الموضوعاتية للإسلام" Encyclopédie thématique de l’islam، هذا فضلاً عن تفسير القرآن، وإعادة كتابة السيرة النبوية، وتحبير "قصص الأنبياء" للأطفال، والخوض في موضوعات ذات طابعٍ فلسفي أو سياسي، مثل كتابات طارق رمضان، وغالب بن الشيخ، أو ذات منحى أنثروبولوجي عام مثل مؤلفات مالك شبل.

وأمام هذا الامتداد الصارخ لكتب التراث، نشأت نزعة فكرية تنزع نحو بناء مفاهيم الحداثة في الفكر الإسلامي، وتركز على طرح إشكاليات تقابل الإسلام مع الحداثة، وخاصّة في الفضاء الجمهوري الفرنسي، للدعوة إلى التوفيق بين نظامَي القيم. وتشكّل كتابات محمد أركون (1928-2010) وتلامذته مثل رشيد بن الزين أهم وجوهها، ولكنها لم تشهد الرواج المرجو لها، ولا حققت القطائع المعرفية التي دعا إليها حتى يلج العقل الإسلامي طورَ الحداثة، وما بعدها.

وهكذا تعكس السوق الفرنسية للكتاب الديني أهم توجهات الصراع الفكري والسياسي بين الأقطاب السياسية. ووراء كل قطاع من الكتب (التراثية، الحديثة، والحداثية)، تقف جهةُ سياسية ما لدعمها وتوظيفها حتى تقوّي شرعيتها الخاصة. وقد يكشف التفكيك المعمّق للمضامين التي يراد ترجمتها وإشاعتها نفس الثوابت الأيديولوجية لهذه الجهات، بل قد تكون مرآتها الفكرية التي تعرضها في المشهد الثقافي حتى تسجّل حضورها وتستقطب مناصريها المستقبليين.

وتبعًا لذلك، فمن الضروري التأكيد أنَّ المنشور من هذه الكتب، والذي يروج أكثر، إنما ينقل صورة القارئ وتطلعاته وانتظاراتِه. فهو يطلب هذه النوعية من المضامين ويبحث عن مثل هذه الأساليب في الإنشاء والتفكير، وكل طلب يخلق عرضاً، كما يقول الاقتصاديون.

لكن يظل القارئ الفرنكفوني قرَّاء، في العَدد كُثرٌ، وفي انتظاراتهم متخالفون: ففيهم طبقة معتنقي الإسلام من الشباب الأوروبي الذي يبحث عن الروحانية الشفافة، وتحقيق المعنى، مع رفض المحتويات الصارمة. وغالبًا، ما يرد على المكتباتٍ حاملًا تساؤلات وجودية، ولكن يخيب ظنه، ويعود من تلك القراءات بأسئلة أشد إحراجًا حول وضعية المرأة في الإسلام، وكيفية تأويل آيات في ظاهرها دعوة للعنف، وعدم المساواة بين الجنسيْن، وقسوة الأحكام الجنائية والحدود.

وقد يكون القارئ من أبناء الجيل الثاني والثالث الذين يكتشفون الإسلام في عقدهم الثاني فيتطلعون إلى معرفة نصوصه وفهم المسائل الإشكالية التي عجز آباؤهم عن شرحها لهم. وأخيرًا قد يكون القارئ علمانيًا، تشكلت آفاق انتظاره حسب الأبنية الاجتماعية النقدية للمعرفة، فلا يجد ضالته المنشودة سوى في الكتب الموضوعية التي تعرض المسائل بمنهجٍ تاريخي أو ثقافي صارم. كما لا ننسى أن من بين طالبي هذه الكتب شقًّا من المجتمع الفرنسي يريد أن يتعرّف على الإسلام، فأي صورة يقدّمها له ما يُعرض؟

سوق الكتب الدينية في فرنسا ليس سوى مرآة عاكسة لتنوع آفاق الانتظار ولكنها تجتمع في الدلالة على جهلٍ بالثقافة العربية الإسلامية ومدى الحاجة إلى الاطلاع عليها واستكشاف كنوزها ومفارقاتها، تاريخيتها وجماليتها، ولا يمكن أن يضطلع بهذا المجهود إلا أجيال متعاقبة وأنظمة معرفية متكاملة، بعيدًا عن التوظيفات السياسية العاجلة والرغبة الاقتصادية التي لا تشبع.

المساهمون