"نياشين" إبراهيم جوابرة: حين تفرّقت العائلة

"نياشين" إبراهيم جوابرة: حين تفرّقت العائلة

12 مارس 2018
(بوحة "العشاء الاخير"، من المعرض)
+ الخط -

لا يهرب من ثقل ما يحيط به من هواجس تتعلّق بالراهن الفلسطيني، إنما يواجهه على طريقته حيث للحقيقة روايات ووجوه متعدّدة، وهو يأبى أن يراها وفق ما فرضته سلطة الأمر الواقع بتمثّلاتها السياسية والمجتمعية. إنه يريد العودة إلى "البيت" الذي ألفه وسكنه ولم يعرف سواه في زحمة التجوال والتساؤلات.

يعيد الفنان التشكيلي الفلسطيني إبراهيم جوابرة (1985) تفكيك ما يلّح عليه من أحداث ومشاهدات، فاللوحة هي المكان المناسب لإعادة تشكيل صورتنا/ حياتنا كما تتراءى له؛ عالم مفبرك غير متحقّق رغم أننا نعيشه، وعالم آخر حقيقي يوجد حيث نتوق للخلاص من كلّ هذه القيود والأوهام.

"نياشين" عنوان معرضه الجديد الذي يحتضنه غاليري "دار المشرق" في عمّان مساء غدٍ الثلاثاء، ويتواصل حتى الحادي والثلاثين من الشهر الجاري، في تكيّيف مختلف لرؤية جمالية حملتها اشتغالاته السابقة على كائناته التي يستحضرها بحرفية عين الفنان الذي يحدس بمصائرها ومآلاتها.

هنا لا يبدو استدعاء الذاكرة حنيناً إلى لحظة يريد تخليدها فحسب، إنما هو تخييل لحضورها الدائم والمستمر لتمنح القدرة على الحلم، والخروج من متاهات زمان لا ننتمي إليه ويحكمنا بأزماته وصراعاته المتناسلة، بل والذهاب أبعد إلى أن نجمع ذاكراتنا المشتركة ونحتفظ بها إلى أزمنة آتية.

إبراهيم جوابرة مع عمله"أنا لاجئ في المخيّم أتخيّل –بعيداً عن لغة الاستعطاف- أن اللاجئين هم الأقلّ حظاً من ناحية تقدير إيمانهم بقضيتهم ودفاعهم واستبسالهم عنها"، يقول جوابرة في حديثه لـ"العربي الجديد"، مضيفاً "كنت أشعر أن النياشين والأوسمة توضع على صدور لا تستحق أن تعلّق عليها".

وحيث "تسلّط الكاميرا على أصحاب القوّة والسلطة"، يختار هو لـ"نياشينه" أن يمنحها لأولئك البعيدين عن الضوء؛ شهداء ومهجّرين ومجهولين ومسحوقين ومهمّشين، الذي ليس لديها المقدرة على الحصول عليها، لافتاً إلى أن "هؤلاء جميعاً يدلّون على ذلك البيت الذي فُقد منّا وكانت العائلة بجميع أفرادها يلتئمون فيه، يرتدون اللباس نفسه، ويعيشون نمط الحياة ذاته، ويفكرّون بالهمّ عينه، إلى أن تغيّر مفهوم العائلة وتفرّق الجميع حين انتصرّت رغبة كلّ واحدٍ منهم بملكيته الخاصة، وتفوّقه الفردي والسياسي والمادي".

إنها ليست مجرّد صورة تعبّر عن المكان الفلسطيني وحده، إذ يرى أنها تمتدّ إلى كل ما يلغي هذا الانتماء الجماعي إلى فكرة واحدة وأمل واحد ومشاعر موحّدة، وهو يعتقد أننا "نحيا في عالم يفرض شروطه علينا ولا نحتاج إلى اختراع قصص حوله، فهناك الكثير من القصص التي نلفقّها ونتعامل معها على أساس أنها حقيقة، مع بعض إضافة بعض العناصر لأسباب جمالية، وللتعبير عن نوع من الألم نحاول تبريره على نحو مختلف".

تُظهر عدد من الأعمال المعروضة وجوهاً بملامح صارمة وقاسية وعيون جاحظة بينما تأتي الخلفية بفراشات أو قطط أو حمر وحشية كأنها مصمّمة على ملصق دعائي، ما يشير إليه الفنان بقوله "يبرز هذا الوجود المتناقض، لعالم ملفّق موجود معنا ولا سبيل لامتلاكه في محاولة لتقريب العمل إلى "بوستر" الذي يهدف للترويج لمنتج معين، ووظيفته هنا إبراز هذا التناقض لعناصر لا تنتمي إلى بعضها بينما هي منفصلة عن بعضها بعضاً".

يضيف "كنت معنياً أن تظهر الأجساد في رسومات والعوالم المحيطة فيها كأنها كولاج أو طباعة ملصقة بها، في تجاور متقصّد لهذين العالمين المنفصلين، وأننا نبحث عن حلمنا من أجل الوصول إليه وندفع التكلفة أو الثمن مهما كانت لنعيد ترتيب الواقع وتكوينه".

تحيل كائنات جوابرة إلى الفكرة الأساسية للمعرض، فالحمار الوحشي لا يعيش إلا ضمن جماعة وهو يمثّل الارتباط الوثيق مع العائلة مشتركاً في ذلك مع الإنسان، وكذلك في تعرضّه للمرض والتهجير من أرضه، وفي شعوره تجاه الكوارث والأزمات، والقط الذي بدأ أنسنته قبل آلاف السنين، وأصبح منذ حينها شريكاً لنا في البيت ودفئه وألفته، وتعلّقه به وبأفراد أسرته.

الحمام الذي يرمز إلى السلام يبدو ملفّقاً في حياتنا حيث رائحة الدمار، وهذه الدوافع المتناقضة هي التي تكوّن عالمنا الذي نعيش، وعلى هذا النحو تتنوّع حالات الوجوه؛ كلّ شخص يعيش داخله شخوص متعدّدين عنه ولديه أزمته وتشوهاته وانفصاماته، من يضع رأسه على كتف غيره في إحساس بالانكسار والحنين إلى زمن مضى، وآخر مع الحمامة يشعر بهزيمته لكنه يتطلّع للخروج من مأزقه، حيث الأمل يتمازج مع الضعف والهشاشة.

من المعرضأما الفراشات فيعني ظهورها موت شخص قريب، ما يعبّر عنه عن حالة الموت أو الفقد المستمرة في منطقتنا العربية حيث شكّلت ملازمة دائمة لنا، بينما يشير العصفور والحمام إلى شخوصه التي تنشد الحرية، في محاولة من الفنان لتكريس ثنائية الواقع والحلم، الثابت والمتغيّر، وفي إيماننا بالبيت وتمسكّنا به رغم كلّ الدمار والخراب من حولنا، وأن نكون جزءاً من الفنتازيا الحلمية أو الجنة التي نتخيلّها حقيقة أبدية لا مناص عنها.

تحضر ثلاثة بورتريهات في ثلاثة أعمال مصغّرة، بحسب جوابرة، الذي يقول لـ"العربي الجديد" أنها "تمثّل شخصانية الفرد عبر سنوات الحروب والصراع التي أعادت تكوينه، إذ تعكس طبقات اللون وتعتيقه جملة تلك الروايات والأحداث التي خاضها وشهد عليها، لتتركّب روايته الخاصة من كلّ هذا الألم والأمل والعنف والواقع والمتخيّل، ويتشكّل من عدّة أجيال وأفكار ورؤى".

لوحتان فقط حملتا عنواناً لهما؛ "النشيد الوطني" التي تعبّر عن حفظ النشيد الكامل لوطن غير كامل، واحتوائنا بنشيد وصوت واحد لوطن واحد بينما الوطن في الواقع هو مشرحة كبيرة، وحناجرنا التي بحّت بالغناء له ونموت دونه وقاتلنا إلى أن يبقى فكرة حيّة نتمسّك بها رغم أن النزيف مستمر ولا نمتلك القدرة على إيقافه، فنلجأ إلى العائلة الواحدة التي باتت آخر حصن لنا لتحقيق حريتنا ووحدتنا واستقلالنا.

و"العشاء الأخير"؛ حيث "يجتمع العالم ممثلاً بـ "يهوذا الإسخريوطي" لتدمير البيت وتشتيتنا"، يقول جوابرة في إشارة إلى أن "كلّ فلسطيني هو مسيح".

تتحاور مفردات إبراهيم جوابرة وعناصر عمله بقوة وتماسك في تبسيط للشكل وتشريحه ليخدم وظيفته، في سعي لإبراز تفاصيلها من دون أن تتكئ على رسالة أو أيديولوجيا مسبقة، ليصبح المتلقي جزءاً من تركيبتها حيث يؤولها وفق ما يختزنه من تجارب ومعارف وأحاسيس، و"النياشين" عندها ستُمنح لكل أولئك المسحوقين في عالم تستبدّ به الآلة ورأس المال المتوحّش والاحتلالات، فقط حين نمتلك الحلم للتحرّر من استلابنا إليها.

دلالات

المساهمون