لا مهادنة في تطوير العبث

لا مهادنة في تطوير العبث

18 فبراير 2018
مقطع من عمل لـ بول غيراغوسيان،1963
+ الخط -

كان رقماً فحسب، حتى أنهم لم يتركوا له الوقت ليلمّ جراحه ويستوعب ما يحيط به في هذه البلاد التي وصلها متسلّلاً من تحت الأسلاك تارة، وخائضاً البحر على متن زورق مطاطي تارة أخرى. أُوليس التائه، وفي متاهته الأسطورية هذه، لم يكن يرى سوى نفسه في عيون الآخرين، صورة شاحبة في زاوية ورقة تؤهله لنيل مرتبة "اللجوء الإنساني".

الإحباط، تماشياً مع ما اجترعه من أوهام ووعود، يتمظهر اليوم أمامه، بعد أعوام استنزفت حماسه، وهو يعدّ ساعات غربته في تلك الصفحة اليتيمة التي بدأ يرى فيها، مثل الملايين من أبناء جلدته، أرضه وبيته، بل عائلته برمّتها وكل ما افتقده ويفتقده طوال هذه السنين من عمر الشتات. عندما شاهد لأول مرة صورة "مدينته المنكوبة" تملّكته الدهشة، وتساءل، مثلما يفعل أي عابر سبيل أمام نفحة خاطفة من الجمال: أهذا ما يؤرّق أحلامي بالفعل؟

يبحث عن الأشياء مرة أخرى، ليس في أماكنها، إنّما في عيون من يلتقي بهم صدفة، على أرصفة محطات القطارات، أو في "مراكز إيواء اللاجئين"، حيث في إحدى المرات، التقاها هي بالذات، لمياء، معلمة الابتدائية في تلك القرية الصغيرة في أقصى الشمال على الحدود مع تركيا، وهي تسأل المهرّب عن كلفة الرحلة إلى السويد. لم يستغرب الأمر، فمنذ فترة أصبح وجود المهرّبين ضمن حلقات معالجة ضحايا الحرب نفسياً، أمراً أقل من اعتيادي.

وفي أكثر من مرّة، أثناء لقاءات لا يعرف بالضبط لماذا ينظّمونها ولماذا يجب أن يدافع خلالها عن نفسه، كان يلوذ بالصمت أمام سجال يحاول نسبياً أن يضعه خارج دائرة الأشياء، ليجد نفسه بعد قليل في وسط خشبة المسرح، تحت الضوء الوحيد الذي يسمح للآخرين أن يشاهدوا كل تعابيره المخفيّة. تطوير العبث؟! يا له من تعبير جميل، هاك الميكروفون، هيّا ابدأ! أيها السادة، يبدو أننا أمام "غودو" المُنتظر!

لحظة رائعة يكتشف خلالها أن الأدب ليس نواحاً وشجناً داخلياً فحسب (رغم الهوس الذي يشعر به تجاه هذه الأحاسيس)، ولكنه منهج "حياة" يمنحه الفرصة تلو الأخرى لكي يعيش مع الخيال، لكي يحلّق دون أن يتحرّك من مكانه، لعبته المفضّلة للهروب من الواقع. أن يكون الأدب متعة ومثار اهتمام في نفس الوقت، كان يبدو له في تلك اللحظة، أمراً جدّياً لحدّ المقت.

ورغم أنها مغلّفة بألف قناع، كان يعرف أن ثمّة حقائق كثيرة تختبئ خلف تلك اللعبة السمجة. التفاؤل يدفعه مرة أخرى لكي يتكلّم. يُغرِقُ الحضور بتفاصيل يعتقد أنها ضرورية لنقل صورة حيّة عن الأوضاع هناك، عن المآسي المتلاحقة، عمّا آلت إليه المدن العريقة. وفي لحظة انفعال، يتمادى أيضاً، ويعلن بمسحة انبهار قلّما يعثر عليها، أنهم ربّما فقدوها إلى الأبد.

يصمت وينتظر بتلهف أيّ ردّ فعل، أيّة إيماءة أو تمتمة ولو خافتة توحي بالغضب أو الاشمئزاز. إنّما لا شيء، سوى عيون تحدّق بذهول في الفراغ، وكأنهم يشاهدون فيلماً لـ كوينتِن تارانتينو، دماء كثيرة ومواقف مرعبة، لا يمكن للمرء إلّا أن تنتابه موجة من الضحك الهستيري أمام غرابتها.

الأسئلة الخجولة تتابع وكأنها صدى لصوت واحد: الصلاة من أجلكم سوف تقام بعد منتصف الليل، وإذا كنت لا تعرف التردّد، هاك الرقم لتتصل بتقنيّ الصوت، ستجده دائماً هناك، لقد كرّس حياته من أجل هذه المحطة الإذاعية التي تبث الأدعية والصلوات على مدار الساعة، راديو "ماتر"، راديو "ماريا"، أمّنا الحنون.

مع ذلك، يشعر أنهم يعرفون مثله أين تنبت بذور الشقاق، وفي حمية قلّ مثيلها، يصرّون على تعميقه، وهو بالطبع يُصرّ معهم. لا يستطيع حتى أن يقول بأننا إخوة أعداء، ولا نكتفي بالكلمات، إنّما بكل أنواع الأسلحة نتقاتل، ناهيك عن الاعتقالات، عن الإعدامات الميدانية، عن سلخ الجلود والتهجير القسري لكي نُذبح في مكان واحد، وتضاف أرقامنا إلى من سبقونا في لائحة قيصر، أو دي ميستورا أو المحاكم الدولية التي تنتظر بشغف إعلان جلستها الأولى، ولكن ليس قبل أن يُفصَلَ الرأس عن الجسد.

المساهمون