أخبار الحمقى والمغفلين [12]

أخبار الحمقى والمغفلين [12]

08 ديسمبر 2018
الرسم لـ فؤاد هاشم
+ الخط -

المغفلون من المتزهدين

عن ابن النقاش: كنت في جامع "واسط"، ورجلان يحدثان في حديث جهنم، فقال أحدهما:
- بلغني أن الله عز وجل يعظم خلقة الكافر حتى يصبح ضرسه مثل جبل أُحُد.
فقال له الآخر: لا. ليس هذا أمره.
وكان إلى جانبهما شيخٌ مُتَأَلِّهٌ، كثير الصلاة، فالتفت إليهما فقال: لا تنكروا هذا، إن الله على كل شيء قدير، وتصديق ما كنتما فيه كتاب الله.
قال: وما ذاك يا عم؟
قال: قوله تعالى: فأولئك يبدل اللهُ سنانهم خشبات. (الصحيح: فأولئك يبدل اللهُ حسناتهم سيئات)، فإذا كان يبدل السن خشبة، فهو قادر على أن يجعله مثل جبل أُحُد!

ومر حجاج الشاعر في درب وفي آخره ميزاب، قال: أصابني، ما أصابني، أصابني..
فلما طال عليه ذلك جاء وجلس تحت الميزاب وقال: استرحتُ من الشك!

قال الجاحظ: أخبرني يحيى بن جعفر قال: كان لي جار من أهل فارس، وكان بلحية ما رأيت أطول منها قط، وكان طول الليل يبكي، فأنبهني ذات ليلة بكاؤُه ونحيبه وهو يشهق ويضرب على رأسه ويردد آية من كتاب الله تعالى، فلما رأيتُ ما نزل به قلتُ لأسمعنَّ هذه الآيةَ التي أبكتْ هذا وأذهبَت نومي، فتسمعتُ عليه وإذا الآية من سورة البقرة (يسألونك عن المحيض قل هو أذى) فعلمت أن طول اللحية لا ينفع.

قال النَظَّام: مررتُ بناحية باب الشام فرأيتُ شيخاً قاعداً عند باب داره، وبين يديه حصى ونوى وهو يسبح ويعدُّ بهما ويقول: حسبي الله، حسبي الله.
قلت: يا عم، ليس هذا هو التسبيح.
قال: كيف هو التسبيحُ عندك؟
قلت: سبحان الله.
قال: يا أحمق، هذا تسبيح تعلمتُه بـ عَبَادانَ منذ ستين سنة أسبح به، أفأتركُه لقولك يا جاهل؟

وقال: رأيتُ أبا محمد السيرافي، وكان طويل اللحية، يدعو ربه وقد رفع يديه إلى السماء وهو يقول:
يا منقذ الموتى، ومنجي الغرقى، وقابل التوبات، وراحم العثرات، أنت تجد من ترحمُه غيري، وأنا لا أجد من يعذبني سواك!

وقال: رأيتُ أبا سعيد البصري، وكان طويل اللحية أحمق، وهو يقول: يا رباه، يا سيداه، يا مولاه، يا جبرائيل، يا إسرافيل، يا ميكائيل، يا كعب الأحبار (عالم يهودي أيام الجاهلية)، يا أويس القرني (أحد النساك الأقدمين) بحق محمد وجرجيس عليك، أرخصْ أمتكَ على الدقيق!!

وكان لأبي العتاهية تلميذ تَصَوَّفَ وتَزَهَّدَ، فقلع إحدى عينيه وقال:
- النظر إلى الدنيا بعينين إسراف!

قال بعض معارفنا إنه حضر في أحد البلدان عند متزهد، وحضر جماعة يتبركون به، فجرى ذكر النبي لوط، فقال المتزهد:
- عليه لعنة الله.
فقيل له: ويحك هذا نبي!
فقال: والله ما علمتُ.
ثم التفت إلى القاضي فقال: خذ عليَّ التوبة مما قلت.
فتاب. ثم أفاضوا في الحديث، فجرى ذكرُ فرعون، فقالوا:
- ما تقول فيه؟
قال: أنا الآن تائبٌ، فلا أتدخل بين الأنبياء!


فصل: في ذكر المغفلين من المعلمين

المعلم قَلَّ أن يخطئ، وإن أخطأ فلا نظن السبب إلا في معاشرة الصبيان، وقد بلغني أن أحد مؤدبي المأمون أساء أدبه، فقال المأمون:
- ما رأيك بمن يجلو عقولنا بأدبه، ويصدأ عقلُه بجهلنا؟ يوقرنا بركازته، ونستخفه بطيشنا؟ يشحذ أذهاننا بفوائده، ويكلُّ ذهنُه بغِيِّنا؟ فلا يزال يعارض بعلمه جهلَنا، وبيقظته غفلتَنا، وبكماله نقصَنا، حتى نستغرق محمودَ خصاله، ويستغرقُ مذموم خصالنا، فإذا برعنا في الاستفادة برع هو في البلادة، وإذا تحلينا بأوفر الأسباب تعطل هو من جميع الأسباب، فنحن - الدهرَ - ننزع منه آدابَه المكتسبة فنستفيدُها دونه، ونثبِّتُ فيه أخلاقَنا الغريزية فينفرد بها دوننا، فهو طول عمره يُكسبُنا عقلاً، ويكتسبُ منا جهلاً، فهو كذبالة السراج، ودودة القز.

وقال أحدهم: مررتُ بمؤدب قد تلا على غلام (فريقٌ في الجنة وفريقُ السعير).
قلت: ما قال الله من هذا شيئاً، إنما هو (فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير).
فقال: أنت تقرأ على حرف أبي عاصم بن علاء الكسائي، وأنا أقرأ على حرف أبي حمزة بن عاصم المدني.
قلت: إن معرفتك بالقُرَّاء لأعجب وأغرب!

قال أحد الماجنين: مررتُ بإحدى دور الملوك، فإذا أنا بمعلم خلفَ ستر، واقف على أربع قوائم، تأملتهُ فوجدتُ صبياً يخرج من خلف الستر، فقبض عليه المعلم.
قلت للمعلم: عرفني خبرك.
قال: هذا غلام يبغض التأديب ويفر، ويدخلُ إلى الداخل ولا يخرج، وإذا طلبته بكى. وله كلبٌ يلعبُ به، فأنبحُ له، فيظن أني كلبه، ويخرج إلي فأمسكه.

وقال الجاحظ: سألت أحد المعلمين: ما لي لا أرى لك عصا؟
قال: لا أحتاج إليها، إنما أقول لمن يرفع صوته (أمه زانية) فيخفضون أصواتهم، وهذا أبلغ من العصاة وأسلم.

وقال لمعلم: لمَ تضرب غلمانك من غير جُرم؟
قال: جرمهم أعظم الأجرام، فهم يدعون لي أن أحج، وإن حججت تفرقوا في المكاتب. أأنا مجنون لأحج؟!!

قال غلام للصبيان: هل لكم أن يفلتنا الشيخ اليوم؟
قالوا: نعم.
قالوا: تعالوا لنشهد عليه أنه مريض.
فجاء واحد منهم فقال: أراك ضعيفاً جداً، وأظنك ستصاب بالحمى، فلو مضيتَ إلى منزلك واسترحت؟
فقال لأحدهم: يا فلان، رفيقك فلان يزعم أني عليل.
فقال: صدق والله. وهل يخفى هذا على أحد؟ اسأل جميع الغلمان يخبروك.
فسألهم، فشهدوا.
فقال لهم: انصرفوا اليوم وتعالوا غداً.

ضرب معلم غلاماً. فقيل: لم تضربُه؟
فقال: إنما أضربه قبل يذنب لئلا يُذنب.

جاء معلمٌ إلى الجاحظ فقال: أنت الذي صنفت كتاب المعلمين، تعيبهم؟
قال: نعم.
قال: وذكرتَ فيه أحد المعلمين جاء إلى الصياد وقال (أيش تصطاد، طرياً أم مالحاً؟).
قال: نعم.
قال: ذلك المعلم أبله، لو كان فيه ذكاء كان يقف فينظر إن خرج طريٌّ عَلِم، أو خرج مالحٌ عَلِم!!

وقال: مررتُ بمعلم وقد كتب لغلام: (وإذا قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك، فيكيدوا لك كيداً)..
قلت: ويحك أدخلت سورة في سورة (لقمان - بـ يوسف).
قال: نعم، إذا كان أبو الغلام يُدخل شهراً في شهر ولا يدفع لي أجري، فأنا أدخلُ سورة في سورة، فلا آخذ شيئاً، ولا ابنُه يتعلمُ شيئاً!

قال الجاحظ: ومررتُ بمعلم صبيان وهو جالس وحده وليس عنده صبيانُه. فقلت له: ما فعل صبيانُك؟
قال: ذهبوا يتصافعون.
فقلت: هل أذهب وأنظر إليهم؟
قال: إن كان ولا بد فغطِّ رأسك لئلا يحسبوك أنا فيصفعوك حتى تعمى!

ورأيت معلماً قد جاءه غلامان قد تعلق كل منهما بالآخر، فقال:
- يا معلم، هذا عض أذني.
فقال: ما عضضتُها، وإنما عض أذن نفسه.
فقال المعلم: يا ابن الخبيثة، أهو جَمَلٌ حتى يعض أذن نفسه؟

قال أبو العنبس: كان ببغداد معلمٌ يشتُمُ الصبيان، فدخلت عليه وشيخٌ معي، فقلنا: لا يحق لك هذا.
قال: ما أشتُمُ إلا من يستحق الشتم، فاحضروا حتى تسمعوا ما أنا فيه.
فحضرنا مرة، فقرأ أحدُ الصبيان: عليها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ يعصون الله ما أمرهم، ولا يفعلون ما يؤمرون. (أصلها: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
فقال المعلم: ليس هؤلاء ملائكة ولا أعرابٌ..
فضحكنا حتى بال أحدنا في سراويله.

وقال بعضُهم: مررتُ بمعلم، والصبيان يضربونه وينتفون لحيته، فتقدمتُ لأخلصه فمنعني، وقال:
- دعهم، بيني وبينهم شرط، إن سبقتُهم إلى الكَتَّاب ضربتُهم، وإن سبقوني ضربوني، واليومَ غلبني النومُ فتأخرت، ولكن، وحياتك إلا بَكَّرْتُ غداً من نصف الليل وتنظر فعلي بهم.
فالتفت صبي وقال: أنا أبات الليلة ههنا حتى تجيء وأصفعك!

وقال أبو الفتح أحمد الحريمي: كان عندنا بخراسان إنسان قروي، فكان له عِجْل، فدخل داره وأدخل رأسه في جب الماء ليشرب، فبقي رأسه في الجب، فجعل يعالج رأسه ليُخرِجَه، فلم يقدر، فاستحضر معلم القرية، فقال: قد وقعت واقعة.
قال: فما هي؟
فأحضره وأراه العجل، فقال: أنا أخلصك، اعطني سكيناً.
فذبح العجل، فوقع رأسه في الجب، وأخذ حجراً وكسر الجب.
فقال القروي: بارك الله فيك، قتلت العجل وكسرت الجب!!

المساهمون