"خيالات": اختفاءات قسرية ومعلنة

"خيالات": اختفاءات قسرية ومعلنة

27 ديسمبر 2018
(مشهد من العرض)
+ الخط -

في عرضه المسرحي "خيالات"، الذي قُدّم ليومَين متتاليَين مؤخّراً على خشبة "مسرح المدينة" في بيروت، ينطلق المخرج السوري ساري مصطفى من شهادات موثّقة لقريبات المختفين السوريّين منذ 2011، سواء المعتقلون منهم لدى النظام أو المخطوفون أو المفقودون الذين ظلّ مصيرهم مجهولاً، وكلّ هؤلاء يندرجون ضمن قائمة ضحايا الاختفاء القسري؛ أحد أكثر انتهاكات حقوق الإنسان ممارسةً في فترات الحروب، ما يجعله موضوعاً يتكرّر في الأعمال الفنية التي تعالج أزمات النزاعات المسلّحة والدكتاتورية.

في لبنان مثلاً، لا تزال قضية المفقودين خلال الحرب الأهلية مطروحةً بعد 28 عاماً على انتهائها، بينما تُقدِّر المنظّمات الحقوقية أن عدد المختفين قسراً في سورية بين 2011 و2016 يقارب 120 ألف ضحية.

يستند العرض إلى تقرير أصدرته منظّمتا "دولتي" و"النساء الآن" بعنوان "خيالات المختفين: شهادات لقريبات المختفين السوريين المنسيين في بحر الفقد واللايقين" (2018)، واستند إلى شهادات جمعتها، على مدى سنتين، من خمسين امرأة من عائلات "مفقودين سوريّين"، لتوثيق التأثيرات المختلفة على النساء اللواتي فقدن أقاربهن؛ حيث يُقدَّر عدد "المختفين" في سورية بأكثر من 117 ألف مفقود من 2011 وحتّى اليوم.

يحمل العرض عنواناً فرعياً توضيحياً هو "قراءات مسرحية لشهادات لقريبات المختفين/يات السوريين/يات". غير أنه لا يقتصر على قراءة نصوص الشهادات على نحو أدائي، بل يعمد إلى توليف نصّ مركّب للتعامل مع هذه الوقائع؛ بحيث يدمج فيه الشهادات، ومقاطع من مسرحية "وادي الموت" للكاتب العراقي حامد الزبيدي، إلى جانب مختارات من الأغاني التراثية العربية التي تحاكي الفقد والخسارة، في محاولة للوصول إلى شكل مسرحي يجمع ستّة ممثّلين وممثّلات يتناوبون في الفعل وردّ الفعل، وينتقلون في السرد بين الأداء الجماعي والفردي.

في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول المخرج: "عملتُ على اختيار فقرات من النصوص تروي حكايات، أو ما أسمّيه فرضيات درامية". ويبدو أن هذا الأسلوب لم يُفض إلى إنتاج شخصيات مسرحية، بل شكّل ما يشبه الأدوار الحكائية التي تتكرّر في كل حالة فقدان؛ كالأم المنتظِرة، والأخت الباحثة عن آثار أخيها، والزوجة التي تتساءل عن أسباب اختفاء زوجها، والابنة التي تكرّر رواية لحظة اعتقال أو اختطاف والدها: "طْلعت من غرفتي لقيت رجال ضخام حاملين بواريد ومعبيين الغرفة، بعدين طالعوا بابا وهو مربوط، غطّولوا عيونو ومشيوا. أخذو هويتو وموبايلو. نحنا صرنا نبكي ونقلن وين أخدتوه؟ وين أخدتوه؟".

يبدأ العرض بمواجهة ستّة ممثّلين وممثّلات للجمهور؛ هم كلّ من: زينة الحريري، وماهر مروة، ويارا قطيش، وشادي قاسم، وأديب رزوق، وريم مروة. يظهر هؤلاء على الخشبة وهم يرتدون أقنعة متشابهة تجعل منهم أشخاصاً مجهولين مفقودين. يرفع المؤدّون الأقنعة لتبدأ الحكايات.

لا تكتفي نصوص الشهادات المختارة للعرض بسرد لحظات الخطف أو الاعتقال، بل تعكس العديد من القضايا السياسية والاجتماعية في أزمنة الحرب؛ مثل تجارب القصف، ورحلات الهجرة والنزوح، والأثر الجسدي والنفسي للحرب، والوضع الاقتصادي للمتضرّرين وسبل تأمين متطلّبات العيش والاستمرارية.

يداخل الإلقاء المسرحي في الحكاية الواحدة بين عدّة حالات، فتقول إحدى الممثّلات: "أنا أمينة/ سمية/ عتاب/ زهرة/ سعاد"، وبين عدّة أماكن في حمص وحلب وصيدا ودمشق وبيروت، وبين أعمار مختلفة، ومستويات اجتماعية وثقافية متفاوتة: "ابني كان طالباً/ رسّاماً / كاتباً/ عامل بناء/ عتّالاً/ تاجراً". هكذا يلفت المخرج، في الفقرة الواحدة، إلى مدى انتشار حالات وتجارب الإخفاء القسري، وتعدُّد المسؤولين عن هذه الانتهاكات بين أطراف النزاعات المسلّحة، وامتداد تداعيات هذه التجربة على عدد من بلدان المنطقة، خصوصاً لبنان وسورية وفلسطين.

الحالة الأكثر وضوحاً وتكراراً في حكايات قريبات المختفين قسراً هي الانتظار من دون أمل أو إجابة... ثمّة امرأة تخطّ رسائل لغائب، وأخرى تعد الأيام رقماً رقماً، وأخرى حائرة بين أن يكون المختفي ميتاً أو حياً. كلّ هذا إلى جانب حالة البحث المستمرّة عن خبر أو معلومة، وحياة التنقّل الدائم من مكان إلى آخر على أمل لقائه: "يا حظي صارلي خمس سنين ما خليت فرع/ مركز/ معتقل/ سجن ما سألت عن ابني فيه. وما لقيتو".

يُقدّم "خيالات"، أيضاً، صورة عمّا تتعرّض إليه الباحثات عن المفقودين من استغلال مالي واحتيال مقابل الحصول على معلومات عن ذويهن: "كلّ حدا بيحكي شكل. ما خلّينا حدا، حطّينا كل المصاري يلّي معنا، وكلّو عم يكذب. هو ما فيك تجرّب تسأل إلّا إذا كان في مصاري ع الطاولة. وبس ياخدوا المصاري ما بيعود حدا بيرد".

يُداخل المخرج في العرض بين الحكايات وبين مقاطع من مسرحية "وادي الموت" للعراقي حامد الزبيدي، مقتبساً منها عبارات إدانة الحالة الأخلاقية، العنفية، واللاتعاضد الذي يسود في الحرب. يفتح نص الزبيدي أيضاً على مجازات شعرية وفلسفية من قبيل: "من يوقف أنهار الدماء؟ وينقذ الإنسان من قبضة الإنسان، من غضب الوحش القابع في روحه البشعة؟ أشمّ رائحة القتل في الهواء، رائحة الجريمة في كل مكان، إنها لمؤامرة كبرى ستسحقنا وتجعلنا رميماً".

ويطعّم عرض "خيالات" أيضاً بأغاني يؤدّيها الممثّلون؛ مثل موّال "دعوني أجود بالبكاء على وحيدي وحدي" من التراث الشامي التي سجلتها حديثاً المغنّية السورية لينا شمميان، وأغنية من فترة الثورة الجزائرية، "قولي لمّا (لأمي) ما تبكيش، يا المنفي"، والتي أعاد غناءها المغنّي الجزائري الراحل رشيد طه، وأخيراً من التراث الفلسطيني أغنية "يا نجمة الصبح وين علّيتي، الأجواد أخذتي والأنذال خلّيتي" التي أعادت تقديمها المغنية الفلسطينية سناء موسى.

المساهمون