أنا سترة صفراء

أنا سترة صفراء

17 ديسمبر 2018
من تظاهرات "السترات الصفراء" هذا الشهر (تصوير: فيرونيك دوفيغوري)
+ الخط -

من أي مَمسَك يمكننا أن نأخذ مسألة "السترات الصفراء"؟ أتصوّر أن العالم بأسره عليه أن يُذهل ممّا يحدث الآن في فرنسا، خصوصاً في تونس، البلد الذي أتاح لنا أن نرى احتجاجاً شعبياً وصل بشكل معقول إلى أهدافه.

إن الثورة التونسية، وما حدث في أكثر من بلد عربي - ورغم أنه من الممكن أن تكون هناك تدخّلات غربية كثيرة للتأثير في مسار الأحداث - تبقى هذه الثورة هي الأولى التي يمكن أن نطلق عليها "ثورة 2.0"، أو أوّل ثورة فيسبوكية. أعتقد أن الفرنسيين لن يكونوا في نفس مستوى العقلانية التي تحلّى بها التونسيون، وأن الثورة التي تلوح في فرنسا (وكثيرون منّا يأمل تحقّقها) ستكون، وينبغي أن تكون، دموية أكثر.

عرفنا في السنوات الأخيرة انتخابات من نوع جديد، انتخابات "البيانات الضخمة" (Big Data) مع وصول باراك أوباما للرئاسة في أميركا، وإيمانويل ماكرون في فرنسا. لقد ولّى زمن البروباغندا الأبوية وانتهى، تلك التي طوّرها إدوارد برنايز (ابن أخت فرويد، شكراً للخال فرويد!) بروباغندا استعملت في الولايات المتحدة ليس أقلّ مما استُعملت في الاتحاد السوفييتي أو في ألمانيا النازية في القرن الماضي: اليوم نعيش عصر "الهندسة الاجتماعية" أو ما يسمونها في روسيا بـ"التكنولوجيا السياسية"، عبر استعمال الخوارزميات والإنترنت ووسائل الإعلام الجماهيرية وغيرها. من يحكموننا، أو بالأحرى من يموّلون من يحكموننا، لهم قدرات حقيقية كي يجعلونا ننتخب من يريدون. لكن، قد تنقلب اللعبة بعنف ضد من يلعبها، ويغذّي نارها.

حركة "السترات الصفراء" وُلدت على فيسبوك، نعرف ذلك. حركة ليست محدّدة مكانياً، مثلما هو الحال مع حركة "القلنسوات الحمراء" (ظهرت في 2013 في منطقة بريطانيا، شمال غربي فرنسا) والتي كان من اليسير تحويلها إلى كاريكاتير على خلفية أن الأعلام البريطانية (نسبة إلى المنطقة) كان تمتزج مع القلنسوات الحمراء. "السترات الصفراء" في المقابل حركة عامة من الغضب الشعبي، تكاد تشبه التمرّدات التي كان يقوم بها الناس ضد النبلاء، وكما حدث ذلك كثيراً في تاريخ فرنسا.

إنها "مرحلة الشعب" التي نتبيّنها في الأفق، زمن صعود الشعبوية التي تعي نفسها وواقعيتها، كما أعلن عن ذلك جان لوك ميلانشون، وينبغي أن نحيّيه على ذلك. بدأ الأمر من استياء بسبب رفع أسعار البنزين، ونسب الضرائب. أخذت دائرة الاحتجاجات تتوسّع لتتحوّل إلى نقد اجتماعي أوسع وأكثر راديكالية. إنها غضب شعبي حقيقي أو حقد. كل أسبوع، هناك من ينضمّ إلى هذه الحركة، وهو ما يوسّع تهديدها: طلاب، تلاميذ، فلاحون، سائقو شاحنات ودراجات نارية (..). منذ البداية كانت حركة منبثقة من "فرنسا الهامشية" التي حدثنا عنها كريستوف غوييي، فرنسا الطبقة الوسطى التي تمثّل البقرة الحلوب للمنظومة. هكذا، حدث أمام أعيينا التلاحم بين البروليتاريا والطبقة الوسطى. وهو وضع ثوري، وذلك ما نعلمه بفضل رفيقنا لينين.

لم يبق سوى "فرنسا الضواحي"، تلك التي انبثقت عن الهجرة، (تلك التي أُريدَ لها أن تكون نقيض "فرنسا الفرنسيين الأصليين") كي تنضم إلى هذا الغضب الشعبي ومن ثمّ ينفلت الأمر بسرعة، لأن هؤلاء قد فهموا في الأخير أن عليهم أن "يذهبوا للجبهة"، مع العاطل عن العمل من أصول فرنسية ممّن انتخبوا "الجبهة الشعبية"، ومعهم المتقاعد الذي يجد صعوبة لتوفير غذائه، وكذلك الموظّف المجبر على حساب ما تبقّى من أمواله بعد يوم 20 من الشهر، أيضاً مع المواطن الريفي الذي يقف على حافة الانتحار، وحتى مع أصحاب شركات صغرى. ولعلّ قمة السخرية أن نرى أرباب عمل يدعون، هم أيضاً، إلى مواصلة الحركة.

ثم، أن يدخل المخرّبون أيضاً، حتى ولو كانوا مؤمنين بالرأسمالية قادمين من الضواحي ينتعلون ماركة "نايكي"، أو هم من أعضاء "بلاك بلوك" من أقصى اليسار، وربما مخرّبين بُلهاء، كل هذا جيّد. وإذا كانت البروليتاريا الرثة هي بالتعريف عدو البروليتاريا، إلا أننا في حاجة إلى العضلات المفتولة والأغبياء تحت علم فوضوي. أرى من هنا دهشة المنفلتين الذين يقرأونني ولكنني أشكرهم كثيراً وبصدق. كسّروا، كسّروا، احرقوا، دمّروا، اضربوا بالحجارة، باريس ستحترق.

الوحيدون الذين لن نراهم، ربما، في مظاهرات السترات الصفراء، هم أبناء البرجوازيين من اليمين، أو البوبو (البورجوازيون البويهيميون) من اليسار المستفيد من العولمة، أو ذاك الشباب المعولم الذي عليه أن يفتح أعينه المندهشة من شقته في بروكلين أو في برلين، إضافة إلى الحمقى الماكرونيين، وأتباع فالس وهولاند، أو موتورو "رابطة الدفاع عن اليهود" و"بيتار"، فهؤلاء لديهم كائنات أخرى يضربونها بالسوط، ويضحّون بها (طبعاً أتحدّث عن الفلسطينيين).

نحن في وضع سكّان قطاع غزة، أو الضفة الغربية، أمام الغول نتنياهو. نحن عبيد؛ نحن عبيد المزارع الذين يكتشفون فضل شفرة صلبة لذبح السيد. نحن هنود احتياطيون قرّروا رفض الماء الذي يمتد بسخاء. "بالقرب من شجرتي، كنت أعيش سعيداً"، كان يقول جورج براسنس. نعم، جميعنا سترات صفراء، جميعنا بلا أسنان، جميعنا هنود، جميعنا فلسطينيّون.

بعضهم، مثل برنار هنري ليفي، أو ماكرون، لهم الحق حين يفكّرون في مغادرة فرنسا (أو عليهم أن يفكّروا في ذلك)، لأنه من الممكن أن يكونوا من أول الرؤوس المقطوعة. أفكّر أيضاً في لوران جوفرين، في فرانز أوليفييه جيزبار، في إدوار فيليب، في جاك أتالي، وفي آلان مينك، ونيكولا ساركوزي، وفي هولاند، والذي من ممكن أن تُقطع أعضاؤه الجنسية، مثلما حدث في أحد مشاهد رواية "جرمنال" لـ إميل زولا، إلا إذا كان شعار "الزواج للجميع" كافياً لوضعه بعيداً من غضب شعبٍ يشعر بالإهانة.

ما نراه يمرّ أمام أعيننا، نحن الفرنسيين، أقول لكم، أصدقائي العرب، هو انتفاضة كرامة شعب. أقول شعب بالمعنى الأشرف للكلمة. أحيل هنا إلى فكرة "Common decency" التي حدّثنا عنها أورويل، والتي يحدّثنا عنها اليوم جان كلود ميشيا (أحد القلائل الذين فهموا كل شيء). وربما يجدر الإشارة إلى "قارعي النواقيس"، مثل إدوارد سنودن أو جوليان أسانج، و"متآمرين" آخرين ممن يوصلون إلينا الحقائق منذ زمن على الإنترنت، كـ بيير جونوفيتش على سبيل المثال.

أزمة السترات الصفراء هذه انتصار لـ"التوعية الإعلامية" (مقابل التضليل الإعلامي) على الإنترنت: لقد ضجر الشعب الغبي من أكل برازه مثل خنزير، ضجر من أن يُجزّ مثل خروف ذاهب إلى الهاوية، لقد قرّر أن يرفع رأسه، ولو كان ذلك مع إبراز أسنانه وعضّ ماكرون لتشويه وجهه؛ الشاب الحيوي، المُضارب، الساهر في الأندية الليلية.

لا يمكن الكذب طويلاً على الشعب، فليس الناس بكل هذه الحماقة، كما يقول سائق التاكسي. لقد انتبه المواطنون إلى أنه لا أحد يهتم بهم، وأنه يجري نتفهم مثل الإوزات. كل ذلك من أجل ماذا؟

طبعاً: تسديد قداسته "الدَّين العمومي". يعلمون الآن، أن المال الذي أُخذ منهم لم يُستثمر في الاقتصاد الحقيقي، وأنه لم تجر إعادة توزيعه من جديد، وأنه لم يذهب إلى الأعمال الاجتماعية ولا إلى المشاريع الكبرى، ولكنه ذهب فقط لسداد فوائض الدَّين. وما هو أصل هذا الدَّين؟

إنها البنوك، وول ستريت وسيتي، إنها الأسواق المالية، وفي النهاية أصحاب أسهم البنوك، تلك الأقلية؛ الأكثر غنى، إنه المال الذي نعطيه للبنوك من أجل أن تعيد إعطاءه للأكثر غنى، أي لرأس المال. شكراً لبيير جونوفيتش، رئيس المتآمرين. شكراً لأنك فسّرت لنا كل هذا من خلال كتبك وفيديوهاتك العديدة على يوتيوب.

لنفعل ما قاله دائماً جان لوك ميلانشون: لنخرج من الاتحاد الأوروبي، من معاهدة لشبونة، عسى أن نستعيد السيطرة على أموالنا كما يردّد دائماً فرانسوا أسيلينو. لنُعد "بنك فرنسا"، ولنُلغ حالاً 60% من الدَّين. كيف ذلك؟ يكفي أن نُعلن أنها ديون غير شرعية، بما أنها لا تستند إلى أية شرعية. هنا، أحيل الفضوليين إلى "قانون 73" الشهير، الذي اقترحه الرئيس بومبيدو، والذي يُرغم الدولة الفرنسية على الاستدانة من الأسواق المالية، أي من البنوك الأميركية. بومبيدو، الموظّف البنكي السابق لدى روتشيلد، مرّر هذا القانون قبل مغادرة السلطة بقليل من أجل أن يرد الجميل لأصحاب البنوك الذين حملوه إلى السلطة.

جورج بومبيدو، بالنسبة لي، سيبقى - من حسن الحظ - مؤلّف "أنطولوجيا الشعر الفرنسي" التي تأخذ موقعاً خاصاً في مكتبتي، وهو ما يمثّل اليوم سبباً كافياً للإبقاء عليه، مثله مثل شارل ديغول الذي عفا عن كتّاب تعاونوا مع الاحتلال الألماني مثل سيلين.

ماكرون، من جهته، ليس شاعراً، له وقاحةُ وبذاءةُ موظّف بنكي شاب. هو جدير بأن ينتهي بين مهملات التاريخ، أو أن يبقى في الأذهان كواضع فرنسا على الحديد والنار، أو من وضع النار بجانب بارود الثورة، كما في عصر لويس السادس عشر، والذي كان ربما شخصاً أفضل من "مانو"، وأقل غباوة منه، في النهاية.

لنسكب دمعة صغيرة على المسكين لويس السادس عشر، والذي لم يفهم كل شيء. لنُعطه هذا العفو، نعم، لنضرب مثلاً في الرحمة. وفي نفس الوقت، لنتمنّ لماكرون نهاية حكم، لا تكون جوبيترية وإنما فاوستية.


* شاعر وكاتب فرنسي، ترجمة: شوقي بن حسن

المساهمون