وجوه البطل

وجوه البطل

23 نوفمبر 2018
("اغتيال الجنرال كليبر" للرسام الفرنسي أنطوان جان غروس)
+ الخط -

لو لم يكتب ألفريد فرج مسرحيّته "سليمان الحلبي" ويحوّلْ هذه الشخصية إلى بطلٍ، لكان من المحتمل أن يبقى تعريف سليمان الحلبي بأنه الرجل الذي قتل الجنرال كليبر.

والبطولة هنا في النص المسرحي، أي في الأدب، لا تعني تنفيذ فعل القتل، بل هي كيفية اتخاذ القرار النهائي من قبل البطل وهو يعلم أنه يصنع قدره بنفسه. وبذلك استطاع الكاتب المسرحي أن ينفي عن الشخصية فعلها العفوي المبني على لحظة غضب أو سخط أو احتجاج ليؤكّد أنه فعل إنساني وأخلاقي مبنيٌّ على خيارات حرّة.

يأتي البطل من عامّة الشعب لا من الأسطورة ولا من الملوك ولا العظماء ولا من الخيارات الأيديولوجية. وهو بطل حقيقي تاريخياً، وقد أعيد خلقُه أدبياً.

وانتقال الشخصية إلى النص الأدبي بات يتحدّى الزمن والتفسيرات التاريخية، ويساهم في صناعة البطل التراجيدي الذي يجد نفسه أمام خيار شبه وحيد يعلم أنه سوف يفضي إلى مصرعه.

اللافت أن سليمان الحلبي، في الذاكرة وفي الأدب العربيَّين، يقتل الجنرال المحتل. أمّا في الذاكرة الفرنسية فإنه يقتل أحد رجال ثورتهم، والغريب في مثل هذه الحسابات أن تمثّل الحملة الفرنسية على مصر، الثورة في بلادها.

ولعلَّ أحد وجوه مأساته في التاريخ، وفي المسرح، أن الفعل الذي قام به لم يكن له من يؤيّده، بل إن بعض المعادين للاحتلال الفرنسي كانوا يدينون قيامه بفعل القتل. لم يكن الخلاف بينه وبينهم في الهدف وهو العدالة، بل في الطريقة والأسلوب المتَّبعَين لتحقيق هذه العدالة.

وشخصية سليمان الحلبي تصلح كي توضّح لنا المنظور المختلف لرؤية البطل والبطولة لدى خصمَين متعاديَين؛ فمن المعروف تاريخياً أن الفرنسيّين ألقوا القبض عليه، بعد مقتل كليبر، وأنهم عذبوه كي يقرّ بأسماء أولئك الذين ساعدوه، وقد اعترف الرجل بأنه اتخذ قراره بنفسه، دون أن يناصره أحد، بل إن من بين أولئك الذي أفشى أمامهم بما يفكّر، وبما يخطّط، من حاول أن يمنعه من القيام بهذا الفعل.

لكن الفرنسيّين قبضوا على المشايخ الأزهريّين الذين شاورهم، وحاولوا ثنيه عن فعله، فقطعوا رقابهم أمام عينيه لأنهم لم يشوا به عندهم. أمّا هو، فقد قُتل بطريقة أكثر فظاعة، إذ أُحرقت يده من قبل فرنسي اسمه بارتيلمي، ثم وُضع على الخازوق، وتُرك في العراء كي يموت على مهل. يقول التاريخ إن جندياً أشفق عليه وسقاه كأساً عجّلت بموته.

يقدّم هنري لورنس في كتاب "الحملة الفرنسية في مصر" وصفاً لما سمّاه طقس تشييع الجنرال الذي اعتُبر بطلاً، مقابل "طقس" إعدام سليمان الحلبي الذي اعتُبر قاتلاً إرهابياً.

من هو البطل؟ من الذي يقرر البطولة؟ ففيما أُخذت جمجمة سليمان الحلبي كي يدرس طلّاب كلية الطب في فرنسا تشريح "علامة الجريمة والتعصُّب"، فإن رأسه نفسه يمتلئ بالأسئلة الوجودية عن الحق والحرية والعدالة في مسرحية ألفريد فرج. وإذا ما أُتيح للعرب استعادة رفات الرجل، وجمجمته، فقد تُعرَض في أحد المتاحف كي تدلّ كيف تكون جمجمة البطل.

المساهمون