نوري الجرّاح.. الشاعر الدمشقي في تطوان

نوري الجرّاح.. الشاعر الدمشقي في تطوان

13 نوفمبر 2018
(ملصق الأمسية في تطوان)
+ الخط -

تحتضن مدينة تطوان المغربية برنامجاً احتفائياً بالشاعر السوري نوري الجرّاح، حيث يقرأ صاحب "حدائق هاملت" مساء بعد غدٍ الخميس، في "المركز الثقافي" ضمن برنامج "شاعر بيننا"، بمرافقة الموسيقي المغربي إدريس الملمومي الذي سيقدّم حفلاً بالمناسبة، تكريماً للشاعر الضيف الذي ستستغرق قراءته قرابة ساعة بحسب المنظّمين.

يشهد اللقاء الذي تنظّمه "دار الشعر" في المدينة معرضاً تشكيلياً أعماله مستوحاة من قصائد "قارب إلى لسبوس"، المجموعة الشعرية قبل الأخيرة لـ الجرّاح، وقد أنجز اللوحات طلبة المعهد الوطني للفنون الجميلة في تطوان، بإشراف التشيكلي حسن الشاعر.

يُعدّ الجرّاح أحد أبرز الأصوات الشعرية العربية المعاصرة التي اختطت مساراً خاصاً بعد ما اصطلح على تسميته بـ"جيل الرواد"، منذ مجموعته الشعرية "الصبي" (1982)، التي نشرها بعد خروجه من سورية إلى بيروت مطلع الثمانينيات.

توالت بعد ذلك مجموعاته الشعرية التي حفرت طريقاً شعرياً منفرداً؛ ومن بينها "مجاراة الصوت"، و"طفولة موت"، و"صعود أبريل" و"حدائق هاملت" و"طريق دمشق" و"الحديقة الفارسية"، وصولاً إلى صدور أعماله الشعرية لغاية 2008، والتي نشر بعدها الجرّاح عدة مجموعات تكثّف الثورة والتراجيديا السورية المعاصرة؛ من بينها "يوم قابيل" و"يأس نوح"، و"مرثيات أربع"، وصولاً إلى "قارب إلى لسبوس" و"نهر على صليب" (2018).

بحسب بيان المنظّمين، فإن هذا الاحتفاء بنوري الجرّاح، لا يقتصر على الاحتفاء بواحدة من أهم تجارب قصيدة النثر العربية، وإنما يستحضر أيضاً عمله التأسيسي لمجلات ومشاريع ثقافية عربية و"الجانب الكفاحي في شخصية الشاعر، فهو عاش تجربة الحصار الإسرائيلي لبيروت سنة 1982 وكان بين نخبة من الشعراء العرب الذي واجهوا الآلة العسكرية الإسرائيلية دفاعاً عن المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية".

ويتابع البيان: "سنةَ 2012، وفي مساندة مفتوحة للانتفاضة السورية الكبرى على الاستبداد السياسي، قاد الشاعر نوري الجرّاح فكرة تأسيس رابطة الكتّاب السوريين، ومعه نخبة من الكتّاب السوريين الأحرار، ثم انتُخب رئيساً للرابطة خلفاَ للمفكّر صادق جلال العظم. ولكنه سرعان ما استقال من هذه المهمّة ليتفرغ للكتابة".


جئتُ لأقول وداعاً
(مختارات من أشعار نوري الجرّاح)


دمشق

نزلتُ من قاسيونَ
وطَوَيْتُ الجبل
حقيبتي صغيرةٌ وسؤالي كبير
شُبَّاكُ دمشقَ مقفلٌ،
وقلبُها الخائفُ في دولابها.
في موضعه
تَرَكَ الصِّبْيَةُ المنتحِرونَ كُرَةَ الصِّوف.
لتوصِدِ البابَ ورائي
وتغزِل الكنزاتِ للموتى
و
تنتظرُ.


(من "مجاراة الصوت"، 1988)


■ ■ ■


حفلٌ متأخرٌ

متى ماتَ كلُّ هؤلاءِ المبتهجينَ والكؤوسُ في أيدِيهم
وتلك التي هُرعتْ بقطرةِ النَّبيذِ على قميصها السُّكريِّ
أيُّ سَريرٍ حَصَدَ ابْتسامَتها..
الأطْوَلُ،
الأَفْتَكُ جَمالاً
طوالَ ليلةٍ،
لموظَّفينَ فقدوا شَهيَّتَهم وطاشوا في الغُرَفْ.


(من "حدائق هاملت"، 1997)


■ ■ ■


انكشاف

ما من أشواك تكفي جبيني، مرة أخرى،
لا خشبَ
ولا مساميرَ
ما مِنْ أصوات تتنادى، ما من ليل يكفي
وساعة تتلف ساقٌ ضوءَ الحليب في النهار البارد
ما مِنْ ستائرَ على المشهد
المقاعدُ هَلَكَتْ في المَطر
والمشاهدون رجَعوا إلى التراب.


(من "صعود ابريل"، 1995)


■ ■ ■


بالون أسود

هل يكفي أُسبوعٌ في مدينةٍ
للقولِ، مراراً، بعدَ ذلك: كنتُ في لندن
أو:
عندما كنتُ في لندن
أو:
ياه ... كم كانتْ جميلةً، ثم بِنَزَقٍ: الباردةُ القبيحةُ
وفي الخلاصةِ: الوقتُ يمرُّ مَرِيضاً على الجسر.
هل يكفي أُسبوعٌ لشخصٍ مثلي
لعبورِ هذيانِ ما بعدَ الظُّهر واختبارِ مدينةٍ،
للالتفافِ على شوارعَ سياميةٍ
وقراءةِ صفحاتٍ من جورج أورويل
في نُزُلٍ رخيصٍ في بادينغتون.
بردٌ محترمٌ يُنزِّهني في الغُرف،
ولا بدَّ من إرجاءِ أمْرٍ،
سأَطلُبُ تبديلَ غرفةٍ بأخرى تُطلُّ على القناة.
لندن هذه أم مقبرةٌ في البحر!
بعد الظُّهرِ، أَيضاً - لأنْ ليسَ هناك
ما هو أَميزُ مِنْ ذلك-
عرباتُ الأُجرةِ سوداءُ مقطِّبةٌ
وأَبطالُ العَلَمَين ياقاتٌ مسرعةٌ إلى حفلٍ راقصٍ.
وعلى الطَّريقِ، في خُضرةٍ رماديةٍ
السكرتيرةُ الفاتنةُ تَدْفَعُ في الأُرجوحةِ رئيسها الجديد
أوداجُه حمراءُ، كما لو كانت دَمَ جميعِ الهنودِ
وفي يده البضَّةِ خيطٌ يمرحُ ببالون أَسود.


(من "حدائق هاملت"، 1997)


■ ■ ■


شرفة في الصيف

شرفةٌ في الصَّيْفِ
يموتُ كلاميَ
أذهبُ إليهِ بالماءِ
أَصِلُ،
وأَجِدُهُ ميِّتاً؛
كلامي
الذي
ولِدَ
وتمدَّدَ في الشُّرفةِ.

..........
..........

هكذا
مرَّتِ الأيامُ
وصِرْتُ مُخَدَّراً
أنظرُ السَّياراتِ الصَّفراءِ
على الرَّابية.

(من "حدائق هاملت"، 1997)


■ ■ ■


رسائل أوديسيوس

مَنْ جاء بيتي ساعَةَ لمْ أكنْ ورأى الدمَ في السَّتائر
مَنْ لمَسَ الباب، مَنْ طافَ في الغُرَفِ
من نَظَرَ سريري؟
أنا لستُ أوديسيوس حتى يكون لي معجبون
قرؤوا قصتي، وجاؤوا يعزّونني
لا
ولستُ أوديسيوس
لتكون لي أختٌ
تُطرِّزُ
على الماكِنة
شالاً، أو قميصاً
لشقيقها الغائب.
لستُ أوديسيوس
لامرأة ماتت ودُفِنَتْ تحت السلَّم
لستُ أوديسيوس
لأمٍ.
لستُ أوديسيوس
لابنٍ.
لستُ أوديسيوس
لأختٍ.
أنا لستُ أوديسيوس
وهؤلاء الذين صُرِعوا وتَخَبَّطوا في فِناء منزلي
صَرَعَهُمُ القَدَرُ.
مَنْ جاءَ بيتي في عَرَبَةٍ
مَنْ جاءَ خِفيةً
وعندما لمْ أكُنْ
مَنْ فَتَحَ الخزائنَ وقَرأَ رسائلي التي أرسلتُها لنفسي
أنا
أوديسيوس
المَيْتُ في باخرة.


(من "طريق دمشق"، 2004)


■ ■ ■


مرثية

لم تعدْ هناك غرفٌ، ولا أَشجان معلقةٌ في الخزائن،
ولا حتى انفراجات ضئيلةٌ للأدراج عن صورٍ أو ملابس لغائبين.
لم تعدْ هناك أسرّةٌ، ولا نائمون، ولا هواءٌ خفيفٌ في النوافذ،
لم تعد هناك غرفٌ، ولا ضيوفٌ يكلِّلونَ بالغارِ جبينَ الجالس؛
أولئك الذين عبَروا الهدأةَ، وفتتوا الأوقات في صمتٍ،
رمقتهم النافذةُ بغضبٍ، وهرعوا في ضجة الأواني تفلتُ من يدِ المضيفة.
ولّما كان يؤول إليهم كلُّ شيءٍ، لم يسمعوا من كان يبكي هناك،
تحتِ،
عندَ البابِ
حيثُ تُركتْ المظلاتُ،
وراح الغبارُ يسفُّ على الباكي رمادَ صوته،
وينحني في المَدخل - مقلّداً السيّدَ - مستقبلاً ضيوفاً آخرين.
لم تعدْ هناك غرفٌ، ولا همسٌ، ولا شيءَ حتى يُشبهُ الجدران
أنفاسٌ محمومةٌ، وضيوفٌ مسافرون شَغَلوا أصابعَهم بالمناديل..
رجَعوا من السعادةِ وتوقَّفوا حِصّةً.
الأطفالُ، الأطفالْ.
النتائجُ الباهرةُ ليانصيب الحُب.


(من "الحديقة الفارسية"، 2004)


■ ■ ■


جئتُ لأقول وداعاً

لا يمرُّ ليلٌ إلا ويطلعُ هذا اللَّمَعانُ، بريقُ حياتيَ المخطوف؛
إلا وينساني رصيفٌ ويأخذني قطارٌ إلى مَدفنٍ.
لا يطلع،
لا يرجف على كأس
إلا و.. ...
مرَّةً جئتُ لأقول وداعاً..
فعلتُ ما.. فعلوا، ورجوتُ الله أن أكون واحداً منهم.
لكن ملائكة نَظَروني، وتسمَّرتُ
وكانوا يتذكَّرونني ويستخرجون لي بطاقةً وأقاربَ.
لم أُحبْ أنْ أُكتشفَ بيُسرٍ
وهم يتركون ليَ الحليبَ في أباريقَ لامعةٍ
ويخرجون
ليسترقوا السَّمعَ.
الآن أستلقي في هدوءٍ بِلَّوريٍّ.
ماذا أفعلُ في غرفةٍ في ريفٍ؟
أكون مسروراً لو وصلَ واحدٌ على درَّاجةٍ برسالةٍ،
لو جاءتْ أختٌ وقالتْ من أجلي أكثرَ مما أستحق،
أنا الأخُ الفاشلُ،
بعد كل ما مضى وما قد يلوحُ؛
بلا شعورٍ أكتبُ إليكِ من تحت الأنوارِ
ولا يُرْهِبُني شيءُ أكثرُ مما تُرْهِبُني هذه الكؤوسُ
وهذا البريقُ
مسَّ كتفي.
شَفَّ
وانْكَسَرَ
ومَسَّ كتفي.
تلك محنةُ الواقفِ
أما أنا، فكلُّ شيءٍ ميسَّرٌ لي.
أنامُ وأتربَّصُ بكِ
أُطيلُ الَّليلَ ليتَّسعَ غفرانُه
لي، ولكِ،
لأتطلَّعَ
وأراكِ تُطفئين الرَّغوةَ
وتتركينني أشربُ الحِلْكَةَ كلَّها.
لسوف نتبادلُ، هو وأنا، فاجعةَ الاستقبالِ،
ما نعتدُّ به، ما نتلهفه، آخرُ عبورٍ لنا هنا في هذه الأنحاءِ الباردةِ.
ذلك هو صَرْفُ القوَّةِ
ونسمِّيه: إسهامُ قادرٍ في النزولِ على السلالمِ إلى حياةٍ أخرى
ومن ثم، في رجعٍ آخرَ:
طوافٌ في خوفٍ.


(من "حدائق هاملت"، 1997)


■ ■ ■


كَلِمَات‭ ‬هُومِيرُوس ‬الْأَخِيرَةْ

لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةَ
لَا‭ ‬بَحْرَ‭ ‬وَلَا‭ ‬مَرَاكَبَ‭ ‬وَلَا‭ ‬سَلَالِمَ‭ ‬عَلَى‭ ‬الْأَسْوَارْ،
لاَ‭ ‬حِصَانَ‭ ‬خَشَبِيَّاً،‭ ‬وَلَا‭ ‬جُنُودَاً‭ ‬يَخْتَبِئُون‭ ‬فِي‭ ‬خَشَبِ‭ ‬الْحِصَانْ
سَأَعْتَذِرُ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬يَا‭ ‬أَبْطَالِيَ‭ ‬الصَّرْعَى؛
آخِيلُ‭ ‬بِكَعْبِهِ‭ ‬الْمُجَنَّحِ
هِكْتُورْ‭ ‬بِصَدْرِهِ‭ ‬الطُّرْوَادِيُّ‭ ‬الْعَرِيضْ
وَأَنْتَ‭ ‬يَا‭ ‬أَغَامِمْنُونْ‭ ‬بِلِحْيَتِكَ‭ ‬الْبَيْضَاءِ
وَسَيْفِكَ‭ ‬الْمُسْلَطِ‭ ‬عَلَى‭ ‬رِقَابِ‭ ‬الْبَحَّارَةِ‭ ‬الْهَارِبِينَ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْمَعْرَكَةْ‭.‬

‭ ‬‭***‬

لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةَ
لَا‭ ‬دَمَ‭ ‬وَلَا‭ ‬دُمُوعَ
لَا‭ ‬أَقْوَاسَ‭ ‬نَصْرٍ‭ ‬وَلَا‭ ‬أَطْوَاقَ‭ ‬غَارٍ‭ ‬فِي‭ ‬الرُّؤُوسْ
لَا‭ ‬جُرُوحَ‭ ‬فِي‭ ‬جَثَامِينِ‭ ‬الرِّجَالْ
لَا‭ ‬قَتْلَى
وَلَا‭ ‬قُبُورَ
لَا‭ ‬آسَ‭ ‬عَلَى‭ ‬الْأَسْمَاءِ‭ ‬وَلَا‭ ‬بَاكِيَاتٍ‭ ‬فِي‭ ‬شُرُفَاتِ‭ ‬الْبُكَاءْ‭. ‬

‭***‬

لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةَ
الْمُرَاهِقُ‭ ‬لَمْ‭ ‬يَقْطِفْ‭ ‬تُفَّاحَةً‭ ‬لِامْرَأَةٍ‭ ‬فِي‭ ‬شُرْفَةٍ
وَلَمْ‭ ‬يَكُنْ‭ ‬فِي‭ ‬الْمَدِينَةِ‭ ‬زَوجٌ‭ ‬اسْمُهُ‭ ‬مِينِلَاوسْ
هِيلِنْ‭ ‬وَحْدَهَا،‭ ‬كَانَتْ‭ ‬تَتَشَمَّسُ‭ ‬فِي‭ ‬حَدِيقَةِ‭ ‬هُومِيرُوسْ
وَلِأَجْلِ‭ ‬وِشَاحِهَا‭ ‬الْقُرْمُزِيِّ‭ ‬وَخَدِّهَا‭ ‬الْأَسِيلِ
أَسْلَمَ‭ ‬خَيَالَهُ‭ ‬لِلرِّيحْ
وَأَصَابِعَهُ‭ ‬لِلْأَوتَارْ‭.‬

‭***‬

لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةَ
لَا‭ ‬مَرَاكِبَ‭ ‬عَلَى‭ ‬السَّوَاحِلِ،‭ ‬وَلَا‭ ‬جُنُودَ‭ ‬فِي‭ ‬الْمَرَاكِبِ
الْقَمَرُ‭ ‬يَلْهُو‭ ‬فِي‭ ‬الْحُقُولِ،‭ ‬والشَّجَرَةُ‭ ‬تُؤْنِسُ‭ ‬الْحِصَانَ‭.‬
‭لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬
فِي
طُرْوَادَةْ
‭الْمُنْشِدُ‭ ‬أَسْلَمَ‭ ‬قِيثَارَتَهُ‭ ‬لِلرِّيحِ
وَاسْتَرَدَّ‭ ‬أَصَابِعَهُ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْأَوتَارْ
‬عُودُوا‭ ‬إِلَى‭ ‬بُيُوتِكُمْ
عَانِقُوا‭ ‬الزَّوجَاتِ‭ ‬الصَّغِيراتِ‭ ‬وَقَبِّلُوا‭ ‬الْأَطْفَالْ
وَتَلَهُّوا‭ ‬بِخَمْرَةِ‭ ‬الْعِيدْ‭.‬
‬لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةْ‭.‬


(لندن في 16- 09- 2017/ من جديد الشاعر)

دلالات

المساهمون