أصدقاء لغتنا: مع لويس ميغيل كانيادا

أصدقاء لغتنا: مع لويس ميغيل كانيادا

09 أكتوبر 2018
(لويس ميغيل كانيادا، تصوير: إسماعيل إريرو)
+ الخط -
 

تقف هذه الزاوية عند مترجِمي الأدب العربي إلى اللغات العالمية المختلفة، ما هي مشاغلهم وأسئلتهم وحكاية صداقتهم مع اللغة العربية. أصبحتُ مترجِماً من العربية لأنني أعلمُ أنَّ الثقافة العربية غنية ولديها كثيرٌ ممّا تقولُه للثقافة الغربية، يقول المستعرب الإسباني لـ "العربي الجديد".
 

متى وكيف بدأت علاقتك باللغة العربية؟
كان عمري ثماني عشرة سنة حين دخلت الجامعة في ألميريا (جنوب شرق إسبانيا) واكتشفتُ لغةَ العرب وأحببتها بفضل أستاذتي الأولى. كانت امرأةً إسبانية عجوزاً، لم تكن تتكلّم العربية بطلاقة، ولكنها جعلتْني أحب العربية وغيَّرت طريقَ حياتي، واليوم لا أزال أشعر بالجميل العميق تُجاهها.

إلى هذه الدرجة يكون دور المُعلّمين مهمّاً. أتذكّر جميعَ الأساتذة الذين عَلّموني العربية، وكلّ المؤلفين الذين ترْجَمْتُهم. أصبحت مترجماً إلى الإسبانية لأنني أحبّ لغتي الأمّ غايةَ الحب ولأنّي كلّما كنتُ أتَرْجِم كتاباً جديداً أحسُّ أني أعيش حياةً إضافية لحياتي العادية، بما فيها من متعة ومشقّة. وأصبحت مترجماً من العربية لأنني أعلمُ، بحُكْم المعرفة، أنَّ الثقافة العربية غنية ولديها كثيرٌ ممّا تقولُه للثقافة الغربية.

وإذا كان ينبغي عليّ اليوم أن أقيّم ما قدّمَتْه لي العربية لَصرّحتُ بأمرين أساسِيَيْن: الأول هو مهنة المترجِم في مجال الترجمة الأدبية. إنه من المحتمل جدّاً أنني لو كنتُ سلكْتُ مسار التخصّص في اللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية، لما أصبحتُ مترجماً. العربية هي مَا قادني إلى هذه المهنة التي تتطلّبُ، مِثلُها مِثْل مهنة الكاتب، عملاً دائماً لا نهاية له في ما يخص اللغة، لأن الذاتية بدَورها لا نهايةَ لها.

أمّا الأمر الثاني الذي قدَّمَتْه لي العربية فهو فرصة السفر. العربية كانت ولا تزال بالنسبة إلي مفتاح السفر. هاجَر أجدادي في أوائل القرن العشرين من جنوب إسبانيا إلى شمال المغرب، هرباً من الفقر في بادئ الأمر، واستقرّوا هناك هرباً من الحرب الأهلية في ما بعد. وهكذا وُلدتُ في مدينة صغيرة اسمها الحسيمة، وهي قرية بربرية تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسّط، وبقيَت تحت حماية دولة إسبانيا حتى عام 1956.

مضى الزمن إلى أن بلغتُ سن الرشد، فحزَمتُ حقائبي وسافرتُ تماماً كالسندباد إلى الشرق، وكان سفَري دوماً ميْموناً لأني خَبَّأْت في حَقائبي العربية وهي مِفتاح الشرق. فَبِفضلِ العربية سافرتُ لمدة خمسةِ أيام ليلاً نهاراً على مِنَصَّة دونَ مقاعِد في قطار بين أم درمان وجبل مرعى (على الحدود التشادية).

أهدتني العربية رحلة استغرقتْ ثلاثةَ أيام سيراً على الأقدام عبْر الصّحراء التي تربط المعالم الأثرية بين تَدْمُر ومدينة الرُّصافة في سورية. من تلك الرحلة أتذكّر أنني شاركت البدو في بَعْضٍ من الشاي والجُبن. من بين رِحلات أخرى، أهدتْني العربية سَفراً بالحافلة من بغداد إلى برشلونة، ورحلةً قد تكرّرتْ في العقد الأخير، من بيروت إلى جبيل (بيبلوس)، كما أهدتني العربية الأسبوع الماضي رحلة بسيارة الأجرة من الشارقة في الإمارات إلى شبه جزيرة مُسَندَم في عُمان ودائماً برِفْقة أفضل الأحِبّة.


ما أول كتاب ترجمتَه وكيف جرى تلقّيه؟
سنة 1993، حصلتُ على منحة من وزارة الثقافة الإسبانية لترجمة شعر بدر شاكر السياب لكتابَيه "أنشودة المطر" و"المعبد الغريق" وقصائد أخرى إلى الإسبانية. وربما بسبب كونه أوّل عمل، فهو أحد أكثر الأعمال التي تركتْ أثراً عميقاً في داخلي. صدر الكتاب بالعربية والإسبانية عن "دار ماريموتو"، وهي دار نشر متخصّصة في الشعر يديرها شعراء إسبان.

ربما إن كنتُ مصيباً كانت طبعة تشتمل من حيث العدد على 500 نسخة، وقد نفدت الطبعة الأولى بسرعة. كذلك أتذكّر أن دار النشر هذه اختارت قصيدة "المسيح بعد الصلب" لتهنئة قرّائها وزبائنها بمناسبة أعياد الميلاد لتلك السنة، فطبعتْ ووزّعتْ أعداداً هامّة من بطاقة بريدية رائعة عليها قصيدة بدر شاكر السياب بالإسبانية.


ما آخر إصداراتك المترجمة من العربية وما هو إصدارك القادم؟
لحسن الحظ المشاريع دائما متوفرة وبوفرةٍ، من بين آخر إصداراتي المترجمة من العربية هناك عشرة كتب للأطفال طُلِب منِّي ترجمتها من أجل المشاركة بها في "معرض لا هافانا للكتاب" في كوبا. وأيضاً من بين آخر إصداراتي ديوان للشاعر المغربي محمد بنّيس وآخر للشاعر العراقي كاظم جهاد.

وقد بدأت للتوّ بترجمة مخطوطة قديمة تعود إلى القرن الثاني عشر، وهي عبارة عن مقالة في الطب والسحر تتكوّن ممّا يقارب مئتي صفحة. وأتمنى أن أُكمل هذا العمل قبل انصراف العام الجاري. هذا بالإضافة إلى العمل على إعداد مختارات من شعر أبي العلاء المعرّي ومريد البرغوثي... فتلك المشاريع هي دائماً حاضرة في ذهني.


ما العقبات التي تواجهك كمترجم من اللغة العربية؟
بين أول كتاب وآخر كتابٍ ترجمته، هناك ما يقرُب من 26 عملاً، فقد تخلّلها ترجمة الرواية والشعر والسيرة الذاتية وكتب الأطفال. بالإضافة إلى ذلك وأثناء تلك الفترة، قمتُ بإلقاء محاضرات كثيرة في الترجمة، ومن خلالها تعلّمت الكثير من طلاّبي. بالرغم من ذلك كلّه، فإنه في كل مرة أبدأ فيها بترجمة جديدة يتملّكني الشعور بعدم الثقة وقلّة الحيلة، كما تمَلَّكَني عند ترجمة أول كتاب.

في أعماقي، أنا لا أكترث لذلك وقد لا يؤلمني، هكذا يجب أن يكون الأمر، ففي حقل الترجمة لا توجد معادلات أو قواعد بعينها. على المترجم أن ينتابه الشعور بالشك في كل حل يختاره فيرجع إلى نصّه المرة تلو المرة. فأنا لا أقوم بتقديم الترجمة دون مراجعة كاملة من أربع إلى ست مرات، ولو أنّني على يقين دائماً بأن النسخة الأولى هي الأفضل!

إن الحدس والخبرة هي أفضل ما يملكه المترجم من أسلحة. نحن اليوم كمترجمين نعتبر أنفسنا محظوظين لأننا نمتلك أدوات ووسائل متعدّدة تسهّل بدورها الكثير من العقبات في عملِنا. أقصد هنا المعاجم والموسوعات والمكتبات عن طريق الإنترنت والدردشة عبر الشات والدورات في الترجمة والدراسات حولها، بالإضافة إلى إمكانية التواصل مع المؤلّف أو مع الناطقين باللغة العربية، من دون أن ننسى الاستعانة بالسيّد غوغل كما سمّاه بعضهم. ولكن بالرغم من الاستعانة بتلك الأدوات، الترجمة بحد ذاتها ليست وظيفة أوتوماتيكيّة مجرّدة من الصعوبات.
فالترجمة أو على الأقل الترجمة الأدبية لا تعني ترجمة الكلمات ولا حتى الجُمل. فمثلاً يمكن لأي إنسان يتحدّث لغتين باستعانته بالقاموس أو بدليل للترجمة أن يقوم بتلك العملية، لكن القضية-المشكل لا يكمن هنا، فنحن لا نترجم الكلمات ولا حتى الجُمل وإنما نترجم ما أرادت أن تقولَه تلك الكلمات والجُمل. فهذا لا يساوي ذاك.

كما يقول خورخي لويس بورخيس، المعاجم ثنائية اللغة ليس فقط لا تصل إلى المعنى المحدد، وإنما تتجاهل القاعدة الثقافية والمفهوم الذي قد تحتويه الكلمات: مثلا الطفل "يوسف" ليس هو الطفل "خوسيه"، طائر البوم يرمز في اللغة العربية إلى التشاؤم وفي الإسبانية إلى المعرفة، وكلمة "غابة" بالإسبانية دلالاتها تختلف عن دلالات كلمة "غابة" بالعربية. والسؤال هنا هل من الممكن ترجمة الثقافات؟

ما يقوم به المترجم غالباً هو أقلَمة وتبسيط تلك الثقافات، وجعلها قابلة للاستيعاب لكي تصل إلى القارئ دون عنف ولا استغراب. في الحقيقة، كما كتب الأكاديمي والمترجم الإسباني ميغيل ساينث، عندما نتعامل مع الثقافات علينا أن نتشاركها وننقلها كما هي على طبيعتها، فبذلك نقوم بعرض وجعل مدى رؤية الآخر يصل إلى ما هو مختلف عنه، مما يتيح للقارئ إمكانية الغوص في أعماق ثقافة الآخر.

هذا من ناحية المضمون، أمّا من ناحية الشكل، وبحسب رأيي فإنه في حالة الشعر، الشكل في كثير من الأحيان يكون هو المضمون، ولذلك يجب مراعاة ذلك الجانب إلى أبعد حد. وإذا كان الأمر يتعلّق بعمل نثري، أحرص على أن تكون قراءة النص باللغة الإسبانية أكثر طلاقة، ولكن بالتوازي مع ما يسمح به الترتيب النحوي للنص الأصلي العربي وهذا يعني بطبيعة الحال إعادة تحرير وتكوين النص. الوصول إلى هذا التوازن وإلى نقطة الوسط بين ما هو غريب وبين ما هو مألوف يُعتبر التحدّي الأكبر الذي يواجهه المترجمون من اللغة العربية.


نلاحظ أن الاهتمام يقتصر على ترجمة الأدب العربي وفق نظرة واهتمام معينين، ولا يشمل الفكر وبقية الإنتاج المعرفي العربي، كيف تنظر إلى هذا الأمر وما هو السبيل لتجاوز هذه الحالة؟
كمدير برامج الترجمة من العربية إلى الإسبانية في "مدرسة طليطلة للمترجمين" منذ سنة 2006، أرى أنه من الضروري العمل على تشجيع ترجمة الإنتاج المعرفي العربي، وفتح قنوات جديدة لترجمة الدراسات والأبحاث، ولهذا السبب أسّست المدرسةُ برنامجاً خاصاً تحت عنوان "الأدب والفكر المغربيّان المعاصران"، وهو برنامج للترجمة والنشر يهدف إلى تعريف القارئ الإسباني ببعض الأعمال والأفكار المغربية المعاصرة الأساسية التي كُتِبت باللغة المصدر، أي العربية.

من خلال هذا المشروع دخلت السوقَ الإسباني مؤلَّفات محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، وامحمد بن عبود وغيرهم. كما أرى أنه من الضروري العمل على ترجمة العديد من الأعمال الشعرية التي تعود الى الفترة العباسية، والشعر الشرقي الكلاسيكي، وأرى أيضاً أنه من الضروري العمل على ترجمة الأعمال العربية الهامة في المسرح وأدب الأطفال والشباب.


هل هناك تعاون بينك وبين مؤسسات في العالم العربي أو بين أفراد وما شكل التعاون الذي تتطلع إليه؟
ضمن حلقة من الحلقات في سلسلة المترجمين بمدرسة طليطلة، أتمتّع بتعاون واسع مع مجموعة من الأساتذة والمترجمين من مختلف الجامعات والمؤسّسات العربيّة، من بينها "مدرسة الملك فهد العليا للترجمة" (المغرب)، و"جامعة القديس يوسف" (لبنان)، و"جامعة القاهرة" (مصر)، و"مؤسسة آنا ليند اليورو- متوسطية للحوار بين الثقافات" في الإسكندرية، و"دار الفنون" في عمّان، و"بيت الشعر" في الدار البيضاء...

هذا التعاون تهدف مدرسة طليطلة من خلاله إلى إعطاء نظرة جديدة عن العالم العربي لدى القرّاء الإسبان وذلك عبر أربعةِ برامج للترجمة، أديرها حالياً وهي: "برنامج الأدب العربي الكلاسيكي" الذي صدرت عنه أعمالُ ابنِ عربي، والمتنبّي، والحلّاج، والمعرّي، وألف ليلة وليلة، ومحمد المويلحي، على سبيل المثال.

عِلاوةً على "برنامج الأدب العربي المعاصر" الذي صدرت عنه أعمالُ عبد الرحمان منيف، وإلياس خوري، ورضوى عاشور، ومريد البرغوثي، وإبراهيم عبد المجيد... و"برنامج الأدب المغربي" الذي صدرت عنه أعمالُ محمد بَنّيس، وأحمد توفيق، وبنسالم حميش... و"برنامج لترجمةِ أدب الأطفال والشباب" تمّت من خلالِهِ ترجمة أعمال لـ إيميلي نصر الله، وصلاح عبد الصبور، وعفاف طبالة... وفي هذا السياق أَنجَزَتْ المدرسة ما يفوق 120 كتاباً خلال العقدين الماضيين.


ما هي المزايا الأساسية للأدب العربي، ولماذا من المهمّ أن يصل إلى العالم؟
أظن أنه من باب المستحيل أن أجيب على سؤال واسع كهذا، فالأدب العربي هو مجموع الأعمال المكتوبة باللغة العربية منذ القرن الخامس إلى أيامنا هذه، ويشمل كلّاً من النثر والشعر وكذلك يشمل الأدب القصصي والرواية والنقد والمسرح وأدب الأطفال وأدب الرحلة والسير والتراجم والمقامات.

ثمّ لِكل جنس أغراضه، على سبيل المثال أغراض الشعر العربي كثيرة نجد من بينها غرض الهجاء والمدح والفخر والغزل والرثاء. لهذا السبب، أرى أنّ لكل جنس في كل زمن صفات ومزايا خاصة مختلفة. ولعلّكم تتفقون معي بأنّ الثقافة العربية لديها باع طويل في تاريخِ الثقافةِ الغربية.

هذا أمر مهمّ للطرَفين لأننا ننظر إلى الترجمة باعتبارِها "سعياً إلى الآخر الذي هو أنا" بحسب كلمات أبي حيّان التوحيدي. ما ينبغي علينا كمترجمين أن نقوم به، هو أن نسعى جميعاً ونُرغِم اللغة الإسبانية والعربية وغيرِهِما على استضافةِ الغريب، الآخر، الذي هو أنا.

قال فيديريكو غارثيا لوركا مئة مرّة ومرّة إنّه بِسبب كونه وُلِدَ في غرناطة كانت لديه قُدرةٌ خاصة على فَهمِ المتشرّدين في العالم، لِفَهمِ الموريسكيّ الذي كان يعيش بداخله، والذي له مكانةٌ في عُروقِ جميعِ الإسبان، قَديماً وحَديثاً.

ليستْ اللغات والهويات والثقافات سوى فُسيفِساء غيرُ متكاملة وفي تحوّلٍ دائم. إنّنا نُدرِك أنّه كلَّما زاد اتصالُ لغةٍ ما بِلُغاتٍ أخرى كلّما أصبحتْ تلك اللغة أغْنى. فلنترجم!
 

بطاقة
Luis Miguel Cañada وُلد في مدينة الحسيمة المغربية عام 1964، ونال شهادة الدكتوراه في الترجمة من "جامعة مالقة"، حيث عمِل مديراً لـ "مدرسة طليطلة للمترجمين" في "جامعة كاستيا لامانشا" بين عامي 2006 و 2017، ويشرف حالياً على أربعة برامج للترجمة في مجال ترجمة الأدب والفكر العربي من اللغة العربية إلى الإسبانية. أشرف أيضاً على تنسيق ما يقارب من إثني عشر منتدى دولياً حول موضوع الترجمة في حوض البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب تدريسه مادة "ترجمة الأدب العربي المعاصر" منذ عام 1999، في جامعتي بغداد وتطوان، و"مدرسة الترجمة" في مدينة طنجة.
أصدر حوالي ستّاً وعشرين ترجمة لكتب عربية؛ من أبرزها "البئر الأولى" لــ جبرا إبراهيم جبرا (بالاشتراك مع ماريلوث كومندادور، منشورات الشرق والمتوسط، 1998)، و"سيرة مدينية" و"شرق المتوسط" لـ عبد الرحمن منيف (منشورات الشرق والمتوسط، 1996، 2000)، و"المعبد الغريق: مختارات شعرية 1948-1964، بدر شاكر السياب" (مركز النشر لجهة مالقة، 2001). إضافة إلى "نهر بين جنازتين" لـ محمد بنيس (دار النشر إيكاريا في برشلونة، طبعة مزدوجة اللغة، 2011)، و"هبة الفراغ" لـ محمد بنيس (منشورات الشرق والمتوسط، طبعة مزدوجة اللغة، 2006)، و"منتصف الليل" لـ مريد البرغوثي (مؤسسة أنطونيو بيريث: كوينكا، وجامعة كاستيا لا مانشا، 2006).

 

المساهمون