سلامة كيلة الذي فكّر وعاش ضدّ منطق الهزيمة

سلامة كيلة الذي فكّر وعاش ضدّ منطق الهزيمة

05 أكتوبر 2018
(سلامة كيلة 2016، تصوير: بسمة فتحي)
+ الخط -
في السابع من حزيران/ يونيو 1967، فتح سلامة كيلة (1955 - 2018) عينيه على دبابات الاحتلال الصهيوني تقتحم ما تبقى من فلسطين. كانت تلك لحظة مؤسّسة في وعي ابن بلدة بيرزيت والذي لم يتمّ عامه الثاني عشر بعد، لتأخذه أسئلته الأولى عن معنى الهزيمة وأسبابها إلى كتابة الشعر.

صاحب "التراث والمستقبل"، الذي يُشيع جثمانه اليوم في عمّان بعد منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال جثمانه إلى الضفّة الغربية لدفنه في مسقط رأسه ببلدة بير زيت شمال رام الله، قرّر حينها أن يكون شاعراً، دوّن في دفاتره قصائد عن حبيبة متخيّلة ووطن جريح يعود إليها كلّما أصيب بانكسار أو خيبة جديدة وبقيت ملازمة له حتى منتصف الثمانينيات يضيف إليها مقطعاً ويحذف آخر، قبل أن يخبئها ويمضي إلى حيث اختار طريقه ونصّه ومعنى وجوده.

وجد نفسه منجذباً للأدب وهو لا يزال على مقاعد الدراسة مشكّلاً قراءاته الأولى، كما أسرّ في أحاديث جمعتنا قبل رحيله بأشهر، مسكوناً بهوى قومي فلم يكن قد تعرّف إلى الماركسية بعد، وستظلّ تجربة جمال عبد الناصر تشغله بالنقد والمراجعة، معترضاً أن تمثّل ثنائية الاستبداد/ الديمقراطية معياراً أساسياً لتحديد الموقف منها، إنما جملة التغيّرات في البنى الاجتماعية والاقتصادية التي قادت إلى فشل النموذج الناصري.

بين فلسطين والعراق التي انتقل إليها عام 1973 ليلتحق بـ"جامعة بغداد"، سيمرّ على عمّان في زيارات متكرّرة إلى عمّه الذي كان يعمل في التجارة، لا يتذكّر منها سوى كومة الجرائد التي كان يحضرها العم إلى مكتبه فيأتي عليها الفتى يقلّب الأخبار والتحليلات حيث الجميع ينتظرون حرباً تردّ الكرامة والأرض السليبة، ولديه حلم أكيد أنه سينشر مقالاته على صفحاتها ذات يوم.

وصل بغداد في الخريف، ويخوض هناك تجربة العمل السياسي في أحد تشكيلات "فتح" التي تأسّست على يد مجموعة من الماركسيين المدفوعين نحو إنشاء حزب شيوعي عربي. ستكون تلك المرحلة الأغنى في حياته بالنقاشات والقراءات، ما جعله يحمل إيمانه بهذا المشروع أينما حلّ وارتحل غير مكترث بتلك الحدود الوهمية بين البلدان العربية وشعوبها.

في ذلك الخريف أيضاً، عبر الجيش المصري خط بارليف لتنتهي الحرب إلى مآلات ما زلنا ندفع اليوم أثمانها، كانت تلك محطّة مفصلية في حياة سلامة كيلة الذي لم تأخذه الحماسة إلى توقّع انتصار لا تؤشر عليه الوقائع والمعطيات، ليذهب أبعد في تتبع ورصد التحوّلات التي أصابت مجتمعاتنا مع خروج المستعمر والوهم الذي أصاب النخب في أن تقود البرجوازية الوطنية التحرّرَ الوطني، في ظلّ عجز الأحزاب التي تمثّل الطبقات العاملة عن القيام بمهامها في هذا السياق، ما مهّد لاستلام الجيش الحكم في أكثر من بلد عربي، وفق طروحاته التي تضمّنتها كتبه لاحقاً.

بحلول عام 1980، سيضطر صاحب "إشكالية الحركة القومية العربية - محاولة توضيح" إلى مغادرة العراق متوجّهاً إلى سورية، والتي دخلها في فترة سادتها الاضطرابات بين البلدين الجارين وأغلقت الحدود بينهما وانهارت أحلام الوحدة التي لم يجف حبر الاتفاق حولها الذي وقّعاه بعد.

ستبدأ في تلك الفترة مراجعاته الجذرية لتجربته الحزبية، وإخفاقات التنظيمات الماركسية العربية بنسختها "السوفييتية" وسيصدر تسعة مؤلّفات قبل أن تعتقله السلطات السورية لثماني سنوات سيخرج بعدها متمسكاً أكثر من ذي قبل بقناعاته وآرائه التي تعبّر عن مثقف عضوي لا يجد مكاناً له في سوق المساومات والمعارضات الموسمية.

انحاز سلامة كيلة منذ نهاية التسعينيات إلى جيل الشباب، فتفرّغ إلى محاورتهم في بيته الدمشقي في حي مساكن برزة، وإلى مخاطبتهم من خلال كرّاساته التي واصل نشرها تباعاً يبشّر بالتغيير الآتي دون ريب، مؤمناً أن التناقض الذي يحكم علاقة المركز الرأسمالي بالأطراف سيفضي إلى انفجار قريب، وتجدّد لأشكال الصراع بين الطبقات المرتبطة بالمركز والمهيمنة على الحكم والثروات في بلدان العالم الثالث وبين الطبقات المفقرة.

قراءة تشكّل امتداداً لمقاربته الأساسية للواقع العربي، وفق كتابه "الهزيمة والطبقات المهزومة" بعد تراكم هزائم ثلاث في تاريخنا المعاصر كما يحقبها بدءاً من فشل مشروع محمد علي باشا، ومروراً بإخفاق الحركة القومية العربية التي ناضلت من أجل الاستقلال، ووصولاً إلى هزيمة الحركة القومية الحديثة التي حكمت عبر الانقلابات العسكرية عدداً من الدول العربية.

يعزو كيلة سبب الهزيمة إلى تلك الطبقات التي قادت عملية التغيير وحاولت تحقيق النهضة، نتيجة تكيفها مع النمط الرأسمالي الإمبريالي الذي كانت تتمرّد عليه، مستشرفاً قرب نهايتها عبر تحليله كافة أشكال ووجوه الفشل المحقق الذي راكمته محاولات التغيير المذكورة وفي مقدمتها الأنظمة القومية.

وإلى جوار فشل الحركات القومية التي حكمت عدداً من البلدان العربية، لم يغفل أزمة الحركة الماركسية العربية في عجزها عن تشكيل سياسة بديلة، فأُجبرت على الالتحاق بمشاريع السلطة الحاكمة.

نذر كيلة حياته لأفكاره التي انتمى إليها ودافع عنها بكلّ ما يملك، والتي كلّفته أن يُبعد قسراً عن أحبّ الأمكنة إلى قلبه؛ الشام. وربما حين أيقن أنه لن يستظلّ ثانية بياسمينة بيته هناك، حلم أن يعود إلى بيرزيت التي تهيأ لزيارتها في أواخر أيامه.

عنيداً ومقاوماً، نجا من مرض السرطان أكثر من مرّة وكان سينجو هذه المرّة بالتأكيد لولا أن غافلته جلطة في القلب، وهو الذي لم يتخلّ فيها عن عاداته وبرنامجه اليومي غير آبه بنصائح الأطباء؛ القراءة وكتابة مقاله وجلسات الأصدقاء التي تطول حتى آخر الليل والكلام، والتحضير لنشر عدد من الكتب التي كان يخطّط لإصدارها. في غمرة كلّ هذه الانشغالات، لم ينتبه إلى أن الموت يطرق بابه، مواصلاً أحاديثه في آخر ليلة عن مشاريع لم تكتمل.


كلمة أخيرة
في آخر مقالاته التي نشرها في "العربي الجديد"، يعيد كيلة تأكيد إخفاق المعارضات العربية التي رأى أنها "قد باتت من الماضي، لأن البيئة التي أنتجتها انتهت، بفعل ما حققته النظم التي تشكلت من أحزابٍ شبيهة بها"، مشيراً إلى أن هذه "النخب" بدلاً من أن تفهم أوضاع شعوبها اكتفت بـ"الردح ضد الاستبداد"؛ رؤية تحيل إلى مثقف لم يستسلم إلى مبررات تلقي اللوم على مؤامرات الخارج واستبداد الداخل هرباً من مواجهة الواقع.

المساهمون