عبد اللطيف اللعبي: أخيراً "الأعمال الكاملة" في المغرب

عبد اللطيف اللعبي: أخيراً "الأعمال الكاملة" في المغرب

14 أكتوبر 2018
(عبد اللطيف اللعبي، تصوير: جان - مارك زاورسكي)
+ الخط -

بسعادة شاعر يجترح خطو البدايات، حلّ الشاعر الذي يحمل بروحٍ متصالحةٍ سنواته الستّ والسبعين بـ"المكتبة الوطنية" في الرباط، للاحتفاء بقطاف شجرة شعرية لم تزل تؤتي ثمارها منذ أكثر من نصف قرن.

تتوالى شهادات أصدقاء ومتابعي تجربةٍ يلتقي فيها الإبداعي والنضالي، المحلّي والكوني، العربي والفرانكفوني. ويردّ عبد اللطيف اللعبي (فاس، 1942) ببسمة امتنان وإيماءة ودودة قبل أن يدعو رفيقة دربه، جوسلين، لمشاركته قراءات ثنائية لقصائد اختارها - على ذمّته - صدفة، كلٌّ منها تحكي زمناً وتجربة ومعاناة... وتصب في نهر حياة شُقّ بزاد الشغف وروح المقاومة.

حدثٌ أدبي بامتياز في دخول ثقافي مغربي بارد، يصنعه صدور الأعمال الشعرية الكاملة باللغة الفرنسية، تجمع في جزأين 21 مجموعةً تَواصَل إصدارها في فترات، متقاربة أحياناً، ومتباعدة أخرى، منذ 1965 وحتى 2017.

أمّا خصوصية الحدث، فتكمن في إنجاز المشروع من قبل دار نشر مغربية، "سيروكو" (Sirocco)، تديرها كارين جوزيف. هي مغامرة وتحدّ تبلوَر في ذهن اللعبي في صيغة واحدٍ من أسئلته المشاغبة والغاضبة على حال السياسة الثقافية في المغرب: "لماذا لا نستطيع إصدار كتب بمعايير نشر تضاهي صناعة الأدب في الدول المتقدّمة، وبما يجعلها في متناول الجمهور؟".

كان صاحب "مجنون الأمل"، الذي اعتاد أن يُطلّ على المحفل الأدبي الفرنسي من أبرز دور النشر الباريسية، يودّ أن يرسم تاريخه الشعري "بنسخة مغربية" تؤكّد رسالة صداقته وتواصله المباشر مع قرّاء بلده، والذين باتت الكرة في مرماهم، للتفاعل مع حصاد شعري توِّج الكاتب بجائزة "غونكور" الفرنسية للشعر في 2009.

حين تلتئم قصائد اللعبي في إصدار جامع، فكأن الأمر يتعلّق بلوحات استرجاعية يُحاور بعضُها بعضاً، ويتجاوز بعضُها البعض الآخر، كنتيجة طبيعية لتحوّلات الذات والزمن وتجدّد أسئلة الكينونة والعالم. من قصائد سليلة الليالي الطويلة في سجون زمن الرصاص على مدى ثماني سنوات، إلى أناشيد الحب والجمال، وغوصاً في تأمّلات الوجود والموت، فمساءلة لمصير إنسانية تائهة وقهر ذاكرة جبرية، تتواثق محطّات اللعبي الشعرية لتصنع مشهد مثقّف ملتزم لكن متجدّد، إنساني الأفق لكن بانخراط مزمن في أسئلة الوطن والمواطنة.

ولعل عناوين المجموعات المضمَّنة في الأعمال الكاملة تعكس لغةً شعرية تُراجع مفرداتها، ورؤىً تنصت إلى نبض عالم فسيح ومتحوّل. من "مملكة البربرية"، "تمزقات"، و"خطاب على التلة العربية"، إلى "الشمس تحتضر"، في الجزء الأول. وتتواصل ومضات كائن حالم في الجزء الثاني مع عناوين من قبيل: "فواكه الجسد"، و"وعد الخريف"، و"مبدأ اللايقين"، و"أكتب الحياة".

يرى خالد اليملاحي، الباحث المغربي الذي قدّم للأعمال الكاملة، في الميثاق الشعري للعبي، الذي قال إنه يواصل بهمّة وحماس التبشير بأحلام وآمال للإنسان المغربي، العربي والكوني، "نشيداً للحياة ودعوةً إلى قراءة صفحات التاريخ بحس اليقظة المبدعة والكرامة التي لا تكسر".
صدور الأعمال الشعرية الكاملة ليس حلماً شخصياً للعبي. كان الأمر يتعلّق بمشروع ثقافي متعثّر تضمّن إصدار أعمال روّاد الأدب المغاربة من خلال دار نشر راوده حلم تأسيسها بعد العودة من فرنسا، بمعية زوجته الكاتبة جوسلين اللعبي. إنه شأن مبدعٍ لا يتوقّف عن الحلم بحركية خلّاقة تضع الثقافة في قلب مشروع تنموي ونهضوي وطني.

كمبدع نال الاعتراف خارج الحدود وتُرجمت أعماله الروائية والشعرية إلى لغات عديدة، ظلّ اللعبي مشتبكاً عن قرب مع مختلف الأسئلة والمحطّات التي استفزّت حسّ انحيازه الدائم إلى الحق والعدالة. هكذا برز أبو قدس (ابنته الكبرى)، في خريفه المزهر، نصيراً دائماً لحقوق الشعب الفلسطيني، ومناصراً ناشطي الحراك الاجتماعي في الحسيمة، وداعماً كلّ ضحايا انتهاك الحريات في بلاده.

يقول اللعبي: "نشرُ أعمالي الشعرية الكاملة، في المغرب، يبعث على شعور بارتياح حقيقي. أحسُّ أنني جبرت نوعاً من الظلم، لأن القرّاء المغاربة حتى الآن لم يكن بوسعهم الحصول إلّا على جزء من هذه الأعمال. وهو وضع يُعزى إلى عوامل خارجة عن إرادتي".

ذلك إحساس شاعر يذهب إلى الآخر، ويعتبر المنتوج الثقافي وجبةً يتقاسمها المبدع مع العالم، هو الذي انشغل، بعمق، بإرساء حوار بين الثقافة العربية والعالم الفرانكفوني، إن جاز التعبير، حين نقل إلى الفرنسية "أنطولوجية الشعر الفلسطيني" المعاصر، وكان أول من عرّف القارئ الفرنسي إلى شعر محمود درويش في ترجماته المبكّرة، كما نقل شعراء وكتاباً آخرين مثل عبد الوهاب البياتي، وسميح القاسم، وحنا مينة، ومحمد الماغوط. ومن آخر ما قدّم في هذا المجال "أنطولوجية الشعر المغربي منذ الاستقلال إلى أيامنا" التي نقلها إلى الفرنسية عام 2005.

يمكن اعتبار "الأعمال الشعرية الكاملة"، هذا الإصدار الجديد الذي يخطب ودّ قارئ مهدّد بالانقراض، سيرةً ذات مقاومة عاندت صنوف المعاناة كلها، الشخصية منها والجمعية، وتاريخَ مواقف حيّة وحرّة تجاه عالم تجرفه رياح الزيف والجهالة. فهل من قارئ يرد على المودّة؟

_________________________________

ماذا عن العربية؟
يُذكّر صدور الأعمال الشعرية الكاملة لـ اللعبي بالفرنسية عن دار "Sirocco" في المغرب بأن أعمال الشاعر المغربي لم تصدر كاملةً بالعربية بعد، وهو الحريص على ترجمة كل عمل يكتبه بالفرنسية إلى العربية. قبل سنوات، بدأت "دار ورد" في دمشق مشروعاً لإصدار أعماله الكاملة الشعرية والروائية بالعربية، لكنّه سرعان ما توقّف مع بداية الثورة السورية، مُسفراً عن جزء يتيم (2011) تضمّن ثلاث مجموعات شعرية، ومجموعة من رواياته.

المساهمون