"خوسيه" الموصلي

"خوسيه" الموصلي

22 يناير 2018
بابلو بالاثويلو/ إسبانيا
+ الخط -

النهر للمنبع لا يعود، ولكنّ الأفيال وسمكَ السلمون وأحفاد القرد يفعلون.
تلك غريزتهم حين يستشعرون قرب الأجل. غير أن ما يميّز الإنسان عن زملائه في القبيلة الحيوانية، أنه يعود للمنبع أيضاً آنَ يتغرّب عن طينته الأولى، وآن يحلم في غربته، وآن يلتقي مواطنيه.

لا يُحتضَر هذا ولا يُنازِع إلا بلغته الأم، حتى لو خرج من رحمها صبياً.
وهو ما حدث قبل أسابيع مع شيخ عراقي جاء برشلونة من قُرى الموصل، قبل ستة عقود، ويجيد الكتالانية والقشتالية كأهل البلد.

زرته بعد اتصال من ابنته، وكنت تعرّفت عليه بالصدفة في مطعم حكومي قريب من غراسيا، فأخبرني أنه منفصل عن سيدة هولندية منذ نصف قرن، ولديه منها ولدان في سنّي، لا يراهما ولا يعرفان من لغته غير "سلام أليكم".

ما يؤلم "آنا" ابنته، أنّها منذ تدهورت صحته ودخل طور الاحتضار، عدمت أي وسيلة للتواصل معه عدا الإشارة.
وبالإشارة أعطاها الورقة المكتوب فيها رقمي.
أمس مات "خوسيه" الموصلي، حسب تلفون من آنا.
أفكر في الأمر، وأقول: ليس جديداً، وليس فيلماً هندياً. مات بلغته الحميمة، بعيداً عن لغات خمس، طارئة وباردة.
تقول الابنة: كان الزهايمر قاسياً عليه.
أقول: لا يسمّى كما تقولين، إنه "العودة إلى الرحم".
ـ تقصد الزهايمر؟
ـ أقصد الرحم.

مات خوسيه الأشقر اللون، دون أن تهتم زوجته وابنه. وحرقت الابنةالجثمان، فلم تحتفظ منه بنفخة رماد.
أما أنا، وآنا من قبلي، فلا نعرف ولن نعرف أبداً اسمه العراقي.
إنه سرُّهُ الأول وقد تبخّر أخيراً في الهواء.

المساهمون