بروميثيوس العربي

بروميثيوس العربي

08 سبتمبر 2017
("بروميثيوس"، فرانك والكوف/ ألمانيا)
+ الخط -

ربما كان أبو القاسم الشابي من أوائل من قدّم بروميثيوس، بوصفه بطلاً للمقاومة في الشعر العربي. وقد استمدّ الصورة الأولى في قصيدته المعروفة "نشيد الجبار"، أو "هكذا غنّى بروميثيوس" من تاريخ الأسطورة، حين قال: "سأعيش رغم الداء والأعداء / كالنسر فوق القمة الشمّاء".

ويمكن لهذه القصيدة أن تكون علامة مبكرة على المسعى العربي الشعري لتحدي المصاعب، والتبشير بالأمل، تجاه العوائق التي يمكن أن تعرقل المسيرة. ولم يتعد الشعراء، فيما بعد، هذه العتبة الفكرية التي أسس لها تقريباً هذا الشاعر في استخدام شخصية البطل اليوناني، كبطل عربي يمثّل الأمل المناضل.

والراجح بحسب ما أرى أن لحضور بروميثيوس، علاقة قويّة بنهوض حركة التحرر الوطني العربية، وأن هذا الحضور يتعدى مسألة الاستخدام التقني لشخصية مستلّة من الأساطير اليونانية. وقد بدا هذا البطل مناسباً أكثر من غيره من الأبطال الأسطوريين للتعبير عن الهواجس العامة والخاصة للشاعر العربي.

منها أنه كان معروفاً في الأسطورة اليونانية بمقاومة سلطة زوس كبير الآلهة الاستبدادية. وبروميثيوس تعني بعيد النظر، والقادر على التنبؤ بالمستقبل. وهو معروف بأنه سرق النار من جبل الأولمب، ومنحها للبشر، كي يتمكنوا من اتقاء برد الشتاء، وطهي طعامهم. وأنه تحمل، بسبب هذه المقاومة العنيدة لسلطة الدكتاتور، العقاب الفظيع الذي شد فيه وثاقه إلى صخرة أعلى جبال القوقاز، وأمر النسر أن يأكل كبده، لتعود مرة ثانية وتنمو، كي يعاود النسر المتوحش التهامها مرة أخرى.

والعلاقة بين الشعر والتحوّلات الاجتماعية والسياسية، تبدو شديدة الوضوح في الاستخدام الرمزي لهذه الأسطورة، أو لغيرها من الأساطير اليونانية أو العربية أيضاً. خاصة حين ينتبه المرء إلى زمن وجودها، وزمن اختفائها، من هذا الشعر. وفي تلك الحقبة كان الشاعر يستطيع أن يعلن أهليته، وأحقيته في تمثيل الهموم الجمعية، وقد تكون سنوات الخمسينيات من القرن العشرين هي المرحلة الأكثر قدرة على قوة هذه الشواهد.

حين كانت الآمال لا تزال ممكنة التحقق. وكان لدى العربي جسارة الاتكاء على جملة من المعطيات الفكرية والسياسية للإيمان بالمستقبل، ويستخدم لهذا الغرض مفردات غالية يصف بها الأيام الآتية، مثل: المشرقة والمضيئة. والملاحظ هنا أن الشعر العربي اهتم بهذه الشخصية الأسطورية حين بات متأكداً من أن جمهوره القارئ يمكن أن يتفهم أسباب ذلك.

وسرعان ما بدا أن البطل اليوناني صار من أهل البيت العربي، وصار كثيرون من العرب يعرفون أنه سارق النار، ويأملون أن يكون بوسعهم أخذها لإضاءة الطريق.

غير أن بروميثيوس اختفى من الشعر العربي سريعاً، ولم تطل مرحلة الحفاوة به كثيراً، ويمكن القول إن اختفاء الشخصية السريع، كان نتيجة الانهيارات المتسارعة لحركة التحرر. وفيما كان ممثلو زيوس الدكتاتور يتكاثرون في العالم العربي، أخذت قوة الشخصية الرمزية تنكمش.

وقد اختفت تقريباً في أيامنا من التعبير الشعري. ولم يعد يرى شيء من المستقبل العربي، بسبب الدخان الذي يتصاعد من الحروب. ولا تترك الدماء والأشلاء التي تتمزق في كل ناحية، إلا القليل للكلمات كي تحاول أن تتسلل من النوافذ لتقول شيئاً عن الأمل.

دلالات

المساهمون