مكاننا في التاريخ الحضاري

مكاننا في التاريخ الحضاري

23 سبتمبر 2017
(صورة جوية لبغداد، 1930)
+ الخط -

حين يذكر التراث، يتجه القصد منه غالباً، إلى نطاق محدود يحصره في قديم المخطوطات من علوم العربية والإسلام، فهنا وهناك، وعلى امتداد الوطن الكبير، توجَّه عناية قلّت أو كثرت، إلى خدمة تراثنا وإحيائه، فإذا كل ما ينشر منه أو أكثره، لا يعدو ذخائر العربية: لغة وبلاغة وأدباً، والإسلام: عقيدة وشريعة وفلسفة وتاريخاً. وننظر هنا وهناك وهنالك، فإذا جمهرة المشتغلين من قومنا بـتحقيق التراث، هم من علماء العربية وفقهاء الإسلام والمتخصصين في درس فلسفته وتاريخه.

ويخشى أن يرسخ فينا هذا الفهم القاصر المحدود لتراثنا، فيغيب عنا أول ما يغيب: أن تراثنا يستوعب إلى جانب ذلك كله، ما ترك أسلافنا من ثمار عقولهم في مختلف فروع المعرفة وميادين العلم، من طب وعقاقير وكيمياء ونبات ورياضيات وفلك... إلى آخر هذه العلوم التي لا تكاد تجد من يعنى بتراثها أو يحسّ حاجتنا إلى إعداد خبراء يشاركون علماء العربية والإسلام في حمل الأمانة الصعبة التي يفرضها علينا وجودنا.

وإذا كانت مهمة التراث الكشف عن جذورنا وعناصر أصالتنا وأسرار ذاتنا، لكي يقدم الأساس الراسخ الوطيد لوجودنا الحاضر والمستقبل، فيجب أن يتأصل الإدراك بأن تراث الأمة لا يقف عند بداية التاريخ الإسلامي الذي جمعنا فيه اللواء الموحّد، وإنما يمتد مع ماضيها إلى ما قبل ذلك موغلاً في أعماق الزمن: فماضي كل الشعوب التي أسلمت وتعربت، هو من ماضي هذه الأمة. وكل الحضارات الفكرية والمادية التي ازدهرت في أرض وطننا، هي في الواقع التاريخي ميراثنا جميعاً، نحن الذين عرّفنا التاريخ من القرن الأول الهجري أمة واحدة!

وهذا الإدراك الواعي، يصحح ما شاع فينا من أن مكاننا في التاريخ الحضاري لم يأخذ دوراً قيادياً إلا في العصر الوسيط حين كان الشرق الإسلامي مناراً للعلم والمعرفة والتمدن، وأوروبا غارقة في ظلمات عصورها الوسطى. وهذا القول الشائع نشأ عن جهل أو تجاهل للواقع التاريخي الذي يشهد بأن الأمة العربية في العصر الإسلامي، قد اندمجت فيها كل الشعوب التي تعربت، فصار ماضيها كله من ماضي هذه الأمة، كما صار تراثها الفكري والحضاري ميراثاً لهذا الوطن الكبير.

ومن ثم لم يجز أن نقف بالتراث عند حد زمني أو مكاني يحصره في نصوص الأدب الجاهلي وذخائر علوم العربية والتاريخ الإسلامي، بل تمتد أبعاده لتستوعب التراث القديم لكل أقطار وطننا، على امتداد الزمان والمكان...

فيدخل فيه مثل نصوص البردي المصري، كما تدخل فيه النصوص التي كشفت عنها الحفريات الأثرية في بابل وآشور واليمن والمغرب العربي الأفريقي... من حيث هي مادة تاريخية لماضي هذه الأمة الواحدة، يأخذ مكانه مع تراثها المشترك من العصر الجاهلي، وتراثها الحي من التاريخ الإسلامي، إذ تتماحى الحدود والفواصل وتلتقي فكراً وروحاً ومزاجاً ولساناً ووجداناً وتتحد وجوداً ومصيراً.

* مقطع من مقدمة كتاب "تراثنا بين ماضٍ وحاضر" (1968).

المساهمون