عضة المنفى ونهشة الوطن

عضة المنفى ونهشة الوطن

21 سبتمبر 2017
مقطع من عمل لـ حليم قارة بيبان/ تونس
+ الخط -

في الأيام الأولى من قدومي إلى إسبانيا، كنت أتمتع براتب مضمون لِعامَين قادمَين، فضلاً عن أستوديو مجاني مدفوع الخدمات. قالت لي مواطنتي القديمة ذات العائلة ورئيسة الجالية، إن عضّة المنفى، قدر مكتوب على جميع المنفيين.

يومها كنت وصلت بالطائرة إلى جزيرة مايوركا، وثمة مليونير محب للثقافة، أخذني بالسيارة من المطار إلى أحد قصوره العتيقة في الريف، حيث يسهر الشعراء من حولي ويشربون، فقلت لها ـ وقد أخرجتني من الجو ـ ألا تستعجل، فإنها ـ أي العضّة ـ "كاس على أمثالنا من الناس".

كان ذلك في مكالمة تليفونية طويلة، نسيت الآن ما دار فيها، ومكَثَ المُهم: عضّة المنفى.
يومذاك، كما أشرت، كنت معفى من عبء إكراهات الضرورة. أخبّ في أرض الكتالان الخضراء خفيفاً كأنها ملك الوالد. ولكني ككل الشعراء، أرى وأحسّ بالعضة العتيدة في وجوه وأقفية الكثيرين، ممن ألقتهم جهات الدنيا في طريقي، أو على مبعدة.

أما اللحظة، فقد جعلت أتابع العضّة وأُحسّها، بشكل مضاعف. فمن يده في النار، حقاً ليس كمن يده في الرماد.

ومع ذلك، أراني مُلزماً بالتفكير على النحو التالي: إذا كان المنفى يعضّ أحياناً، فعضّته خفيفة قياساً بمن تعضّهم أوطانُهم، حدَّ النهْش يومياً، سواء لازموا بيوتهم، أو خرجوا للفضاء.
المنفى يعضّ، إنما لا ينهش، كونه جغرافيا القانون والمواطنة.

هذا الاختراع الذي اكتشفه نوعٌ من الأوروبيين (مرفوعٌ عنهم الغطاء)، بعد لأواء دامت قروناً، دفعوا أثناءها الثمن مضروباً في أصفار، ففهموا أن دولة القانون والمواطنة، لا تتأتى إلا بتحييد المُفَارِق عن المُحَايِث. إنها "خيار الضرورة" أو لا منجى (رغم أن جوزيه ساراماغو وصفها مُصيباً بعد زمن طويل بـ "أفضل السيّىء").

نعم: المنفى الأوروبي يعضّ لكن الجغرافيا العربية تنهش.
وفي الحالتَين، قد تحتاج المعضلة إلى تصرّفٍ من قَبيل: "قفا نبكِ"، ثم بعد جفاف الدمع يتنفس الواقفون الصعداءَ وقد ابتعدوا عن "حافة المذبحة"، آملين ولسان حالهم يهمس: "لعلنا نجونا"!
مع أن البكاء عند رفاقنا المزنوقين هناك لا جدوى منه، والنجاة عند زملائنا الشعراء المغتربين هنا محض وهم.

هيهات!
فكيف ننجو وأغلبنا لا يجد العيش الكريم، وبعضنا يهاجر فيجده مُكبّلاً بقيد الزمن؟
قد نكون كبّرناها هنا، بتجاوزنا الظرف المعيشي، إلى أفق وجودي أوسع وأشسع، يبدو للمحروقين وكأنه البَطَر الخالص، إلا أن "الكلام فيه منه"، وللحقيقة مليون وجه.
ألم يحسمها أخونا أبو العلاء وجفنُهُ يرفّ، بينما صلاح عبد الصبور يقرأ البيت بعد نحو ألف سنة، وشَعرُهُ يقف، أن: [ولو طارَ جبريلٌ بقيةَ عمرهِ / من الدهرِ ما اسطاعَ الخروج من الدهرِ].

فكيف بنا معشر الشعراء الفانين وقد انتقلنا بحمولتنا كاملة من ضفة إلى أخرى، فلم نرتح، مادام الإنترنت موصولاً وتارة ينضح وطوراً ينبح؟

يأتينا بأخبارهم دقيقة بدقيقة، لكأننا بينهم أو أقل قليلاً، فنحمل البطيختين بيد واحدة: عضة المنفى ونهشة الوطن!

المساهمون