شيء لا أعرفه لأسمّيه

شيء لا أعرفه لأسمّيه

18 سبتمبر 2017
(مقطع من عمل لـ غاجيك ألتونيان/ أرمينيا)
+ الخط -

صدِّقيني لا أستطيع أن أكذب مثلهم.
ماذا أفعل هنا؟ عليّ أن أذكّر نفسي أني مجرّد رجل قبو لم يصفُ بعد، رجل قبو يحلم أن يتحرر من كل ما ﻻ يصلح له... القلائل الذين يعرفونني يسمّونني "بريّ"، والذين يصدّقونني، الذين لا براهين عندهم ليدافعوا عني أمام أعداء لا أعرفهم، أعداء، كل حروبي معهم أني لا أكترث لهم، هؤلاء القلائل سينسونني بعد قليل.

لم أعمل مرةً ليكون لي خصوم، تماماً كما لا يهمّني أن أؤسّس لصداقات. مع هذا، يغيظهم أن يروا أحداً بدقة الساهم الخبير، لا يكترث لألعابهم الساذجة. هؤلاء مرتدو الأقنعة الذين لا يجيدون العناية بأقنعتهم، المستعدّون لفعل أي شيء فقط ليثبتوا حضوراً، لينزعوا اعترافاً، أتعاطف معهم لأنهم كلّما أمعنوا في تلميع مواقعهم، أهملوا ذلك الشيء الذي أحدسه ولا أستطيع أن أسمّيه. ربما هو ذلك المصنع المفتوح الغامض حيث تعمل أطياف حقيقية على تركيب الماهية الملونة لله والإنسان والأشياء.

إنها المصادفات. لم أعمل مرةً لتأكيد حضور، أو لإعلان غياب أو عزلة. لا أدّعي اكتفاءً لأنني أعي النقصان، ليس أمامهم، النقصان في مواجهتي لنفسي. في مواجهتي لك. لأوهامي التي أقيس أحجامها بعناية الذي يعي شروده، على عكس ما يفعل المغفلون النشطون. الأوهام التي تتبدل كثيراً، لأنها دائماً في ملعب التأمل، لأن فيها طاقة العدم التي لا تنفد. طاقة المُراقب الذي تلذّ له الملاحظة والقراءة والنسيان. ما أريده على الأقل الآن، أن أبقى في حِلٍّ منهم. لأنني أحبّكِ. لأنهم لا يجيدون حبّكِ. أعرف أنك تعرّفت إلى إخلاصي لك، وأنك تريدينني أن أصبح شخصاً مهماً في عيونهم. لا أستطيع أن أعدكِ. اللعبة أكثر تعقيداً مما ترغبين. لا طاقة لي على احتمال كل هذا...

■ ■ ■

في هذا الليل المقطوع، بشفتين مرتجفتين لا أقول شيئاً. من الراديو تنبعث موسيقى. مجرد موسيقى. الكثير من الكائنات المفترضة تدخل. تخرج بصمت. لا شيء يدلّ على شيء. فقط شفتان ترتجفان، وجسدكِ الغيمي.

مرتبكاً أخرج من البيت. خائباً أعود دونكِ، تربّتين كتفي، تلومينني لتأخري. لا أنوي أن أشكو. فقط أخبركِ، تماماً كما يفعل مَن يخبر نفسه ليتأكد أنه لا يزال حياً، وأنه صباحاً يذهب إلى زمن يشبه ثمرة بيضاء قشّرها حنين حادّ، ومساءً يعود ليجد نفسه لم يغادر. لا. لا أشكو، أنا العاطل عن العمل، اشتغلتُ بجدّ لأبقى قريباً مني. منكِ. مساهِماً في صناعة مصيري. مصيركِ الملتبس دون سيرة لتُذكر. وإذا ما انتبهَ إليّ أحد، وهذا متروك للمصادفات، فلن يستطيع أن يتقصّاني إلا عبر ما بقي من آثار الغياب. من بخار أعماركِ المقطّعة. ما بقي من كلمات تقبل أن تُنسَب إلى أحد ما، يحتمل أنه كان موجوداً.

■ ■ ■

أحسّكِ كيف تتقلّصين وتنكمشين. كيف تتعرّقين. كيف تنحسر الأغطية عنكِ. كيف ترتجفين. إنكِ أكثر هشاشة من احتمال الحروب التي تندلع في مناماتكِ. أكثر رقةً من النظر إليَّ شاحباً صامتاً.

■ ■ ■

راعٍ بلا ماشية. أقصد: ضائعٌ من شدّة الرغبات التي لا تتحملها الحياة. مجرد شاعر ضائع. بلا أثر. أما هذا الكلام، هذه الحروف التي يتراكب بعضها على بعضها، فليست سوى لتأكيد قوة الغروب. هشاشتي فيكِ. هشاشتي فيَّ. لا مهنة لي سوى السهر على صحتكِ. صحة الكلمات. إهدار الكلمات. سوى الرعب من الكلمات. الكلمات. الوهم الذي لا يريد أن يكتمل. إنها بتعبير آخر، أحلام ناقصة تصنعها حقائق غامضة. سأفترض أنكِ تعرفين أنني لا أقصد الكلام الذي على أساسه تُبنى المؤسسات وتُعقد الصفقات وتُشَنّ الحروب ووو. أقصد الكلمة التي تتمايل فيها أطياف الله. الكلمة مومس الأبدية التي لن تتعطل عن إغرائنا.

بصعوبة أرسم الكلمات. أرسمكِ، كجبان يفكّر في الانتحار.
لا أعرف إذا كان لديَّ ماضٍ لأتذكره، أو جسد لأسكن فيه، أو لغة تلمّع حاجتي لأكون.
متيقن أن لا قناع ليضمّني في شكل، ولا جوهر ليحميني.
لي أن أقول لما بقي مني في قعر المستقبل: أنا فقط الحصاد الأبيض للَمستكِ.

■ ■ ■

مع كل إطلالة ظلٍّ لمعنى، أتذكر كم غائب أنا. وكم قريب عميقٌ جسدكِ. وبمنديلٍ مبتل بدموعكِ: أنا الطفل اليتيم معروقاً أمسح جبينك المعروق.
شيء لا أعرفه لأسمّيه، يقول لي إني لم أصفُ بعد. وإن الطريق لا تزال طويلة لأصبح أنا الذي يكتب ويقوم ببعض الأشياء التي لا بد منها. ولا يندم.
هكذا كلما ألقيتُ نظرة عليَّ، عليكِ، رأيتني بعيداً وممتلئاً بظلال الذين أبعدتُ نفسي عنهم. ممتلئاً بدمكِ ولحمكِ.
هكذا أجلس وحدي في برية نفسي. أشعل ناراً. أنتظرني. وأنتظركِ.

■ ■ ■

تربكني قدرتي على سحق مفاصلهم الجوانية، هؤلاء الضائعون في بيوتهم وحاراتهم. يربكني أن أدواتكِ تعمل في يدي على أكمل وجه. ومن دون جدوى، يضحكني أني أريد أن أدلّهم إلى أنفسهم، أنا الشارد بلا بيت وبلا إيمان. يضحكني حتى البكاء هذا الحبّ. حبّكِ الذي لن يضم جسداً متآكلاً من فرط من انشدّ إليك. يضحكني أنني تناسيتُ رائحة الموت على أطراف ثيابي. رائحة الليل على طرف فمكِ. أنكِ وضعتِ حياتي وراء باب لا يفضي إلى مكان. أنكِ الشجرة خلف جدار نفسي، يتحلّق حولكِ الفيء، تاركاً كوات صغيرة للهواء كي يمرّ. هوائي الذي يتنفسكِ.
يبكيني، أنه ليس لي إلاكِ، أيتها القصيدة. يا كذبتي.


* شاعر سوري مقيم في نيويورك

المساهمون