طبائع الاستبداد المصري.. فصام أخلاقي

طبائع الاستبداد المصري.. فصام أخلاقي

17 سبتمبر 2017
(بورتريه لـ عبد الرحمن الكواكبي)
+ الخط -

عند السادسة من مساء اليوم تبدأ احتفالية تستعيد المفكر العربي عبد الرحمن الكواكبي بتنظيم من "مكتبة الإسكندرية"، حيث تقام الفعالية في "بيت السناري" التابع للمكتبة. يحاول الإعلان عن التظاهرة أن يضفي عليها موافقة من عائلة الكواكبي، فيؤكد أنها تقام "بحضور أسرة الكواكبي".

ليس غريباً أن تتوسل تظاهرة تقيمها مؤسسة رسمية تابعة لنظام استبدادي بذكرى الكواكبي (1855-1902) فتتمسح بعدو الاستبداد وتلبس ثوباً ليس لها، مثلما أنه ليس غريباً أن تستخدم حضور عائلة الكواكبي لتضفي المزيد من القبول على التظاهرة التي تقع في مكان لا ينتمي فكر صاحبها إليه، بل إنه جزء من المنظومة التي كرّس الكواكبي حياته للكتابة ضدها.

"العربي الجديد" التقت سلام الكواكبي، حفيد صاحب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لتسأله عن مشاركة أسرة الراحل في التظاهرة وموقفه منها.

يقول الكواكبي الحفيد "إنها ندوة تقيمها مكتبة الاسكندرية في فرعها القاهري بحضور ابنة حفيد الكواكبي وهي سيدة مقيمة في مصر منذ سنوات تسعى الى تخليد ذكرى جدها الأكبر لوجود مدفنه في القاهرة، وقد نجحت مشكورة في لفت الانتباه إلى ضرورة ترميم الضريح. بالمقابل، فعلاقتها ضعيفة بالحمولة الفكرية والسياسية لفكر الكواكبي، في ما عدا أنه شخصية تاريخية لها أثرها في حقبة مضت".

يؤكد الكواكبي أن "الندوة إذاً لا تُنسّق مع العائلة وإنما ربما مع فرد منها. وبالمطلق، فأنا لا يهمني أن أتحدث باسم عائلة أو حتى باسمي كحفيدٍ آخر، وإنما موقفي هو مبدئي، وسيكون ذاته إن احتفلت سلطة مستبدة بمفكر تنويري وتحرري آخر. أحفاد الكواكبي الحقيقيون هم شابات وشباب الحَراك الثوري السلمي العربي، الكردي والأمازيغي، في مختلف البلدان".

وفي إجابة حول استخدام اسم المفكر العربي السوري، من قبل نظام يقوم على الاستبداد أساساً، يقول الكواكبي "للأسف الشديد ليس هو الأول من الأنظمة الاستبدادية التي تحتفل بأحرار وتنويرين في تاريخ ثقافتها للتغطية على انتهاكاتها اليومية لمفهوم الحرية ولظلاميتها الفكرية والعملية. أن يتغطى المستبدون باحتفاليات شكلية لا تدخل في عمق التفكير وتركّز على فولكلورية المشهد وعلى مفهومي: "ولد وترعرع"، هي ظاهرة تمارسها الأنظمة العربية المستبدة منذ القديم. وهي في احتفالات كهذه، تسعى إلى تسطيح الفكر التحرري وتبتعد عن أي إسقاط معاصر لهذا الفكر لما في ذلك من خطر على "الأمن القومي". إنه فصام أخلاقي يُميّز عموماً جميع المستبدّين. من جهة، هم يقمعون شعوبهم ويزجون بمفكريهم في السجون أو يدفعون بهم إلى الهجرة، ومن جهة أخرى يحتفلون بذكرى من حلّل الاستبداد القائم على مثلث الفساد والقمع والتطرّف. من المحزن فعلاً، أن يجري "الاحتفال" بالكواكبي في القاهرة في نفس تاريخ مرور سنتين على الاعتقال التعسفي الذي وقع ضحيته الباحث والصحفي والمحاور السلمي هشام جعفر".

وفي ما يتعلق بتقاطعات فكر الكواكبي مع واقع العالم العربي اليوم، يرى محدّثنا إن "الكواكبي ما زال يصف لنا ما يجري يومياً: علاقة الاستبداد والدين واستغلال رجال الدين لرجال السلطة والعكس. كما في ظاهرة المتمجّد الذي يتزلف للمستبد للحصول على موقع أو نفوذ أو ثروة. كما لقت إلى محاربة المستبد للعلوم الإنسانية لأنها توسع العقول وتنير الطريق وتُعرّف المواطنين بحقوقهم وكيف النوال وكيف الحفظ. والإشارة إلى علاقة الاستبداد بالفساد، إضافة إلى توضيحه كيف يتبنى المستبد قاعدة استعمارية للتفريق بين أفراد الشعب من خلال تأجيج النزاعات الطائفية والقبلية وربط الجميع بسلطته الحامية والمهيمنة. كما أشار الكواكبي إلى العسكر بأشد الانتقاد واعتبر بأن الجندية تطيح بمدنية التفكير وانفتاحه. في ثمانينيات القرن الماضي، استعاض زكريا تامر عن افتتاحيته في مجلة المعرفة السورية بجمل للكواكبي، فكانت النتيجة أن أقيل من منصبه وسحب العدد من الأسواق. راهنية فكره تدعو جميع رجال الأمن العرب ومن في حكمهم يضعون أيديهم على مسدساتهم عند سماع الاسم".

ما زال كتاب "طبائع الاستبداد" يطبع بشكل مستمر، كما يقول الكواكبي الحفيد، مبيناً أن نسخة فرنسية له صدرت العام الماضي وحصلت على اهتمام كبير في الأوساط الغربية.

وحول أهم من اشتغل على فكره، يلفت الكواكبي إلى أنه "لا يمكن إهمال جهود الأستاذ جان داية، على الرغم من تأثير الانتماء الأيديولوجي لديه في تفسير بعض النصوص. ولكن الراحلين نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، فهما الكواكبي بعمق لا مثيل له واستنبطا من فكره نصوصاً تصلح لتكون أساساً لفكر سوسيولوجي عربي حديث. أهم الأعمال الكاملة حققها الباحث جمال طحان الذي سخّر حياته لجمع وتحقيق نصوص الكواكبي، وهو كان من أول المعتقلين في بداية الحراك السلمي في حلب، مدينته ومدينة الكواكبي".

يقف حفيد الكواكبي في ذكرى جدّه عند علاقة المثقف بالسلطة، فيشير إلى أن "السلطات المستبدة في الدولة الأمنوقراطية العربية استخدمت عدة وسائل للسيطرة على مثقفي بلدانها: استقطبت بعضهم بالوظائف، وأفسدت بعضاً من خلال المال، وأرسلت بالبعض الآخر إلى أقبية التعذيب أو إلى مجاهل الاغتراب. من استطاع الصمود والإنتاج في ظلّها، معدودون على الأصابع وقد لجؤوا في غالبيتهم إلى مبدأ "التقيّة". وقد وقع المثقفون العرب ضحايا مزدوجين، فمن جهة، السلطات المستبدة، ومن جهة أخرى، القوى الظلامية، التي تقاطعت مع المستبد في قمع الحريات وساهمت في تصحير المشهد الثقافي عموماً رغم استثناءات من هنا ومن هناك. المثقف العضوي في هذه المنطقة قديس وهو يقوم بما يمكنه من إنتاج إبداعي في عتمة الظروف الراهنة".

أخيراً، يضيف الكواكبي "أكاد أقول، في زمن العسف العثماني الذي عانى منه الكواكبي مثلاً، كانت مجالات التعبير أكثر انفتاحاً نسبياً مما هي عليه الحال في أيامنا هذه".

المساهمون