كارل بوبر.. أن نحلم بـ"المجتمع المفتوح" في تونس

كارل بوبر.. أن نحلم بـ"المجتمع المفتوح" في تونس

17 سبتمبر 2017
(بوبر)
+ الخط -

تحلّ اليوم الذكرى الثالثة والعشرون لرحيل المفكر النمساوي كارل بوبر (1902- 1994). تأتي هذا العام متزامنة مع معترك تعيشه تونس على خلفية تمرير "قانون المصالحة" مؤخراً والاحتجاجات الشعبية حوله، وهو ما يحيل بشيء من القراءة المتجاوزة إلى مضمون أحد أعماله "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، والذي يقدّم مفاتيح لقراءة ما يحدث في تونس كعيّنة لما حدث في مجمل المنطقة.

الإشكالية التي يطرحها "قانون المصالحة" (مع جزء من المتورّطين في قضايا فساد مع النظام السابق) أنه مرّ من المصادقة البرلمانية دون أن يحظى بشعبية، بل بالعكس تُظهر وسائل التواصل الاجتماعي وتواتر الاحتجاجات أنه قانون غير مرغوب فيه.

هذه القطيعة بين الشعب والبرلمان (الذي هو في الأصل ممثل للشعب) توضّح أن مصالح أخرى تدير دفة الأمور في تونس بعيداً عن الإرادة الشعبية، بل لا يتورّع بعضهم في كسرها، ولنذكر قبل أسابيع تلك الاحتجاجات على تمرير الكوميدي الصهيوني ميشال بوجناح، وإصرار إدارة مهرجان قرطاج ومن ورائها وزارة الثقافة على عرضه.

قد يبدو بوبر بعيداً جداً عن هكذا سجالات محلية، ولكن نظريّاته تأتي في قلبها. فبمصطلحاته ما يحدث في تونس ليس سوى تجاذب بين تطلّع إلى مجتمع مفتوح وآخر مغلق. بحسب بوبر، فإن المجتمع المفتوح يتميّز بتقديم الفرص لأبنائه كي يتنافسوا في لعبة الصعود الاجتماعي ومن ثمّ يجري توزيع الثروة بناء على قواعد العطاء والكفاءة والفضيلة.

أما المجتمع المغلق فهو الذي تتحدّد معالمه مسبقاً وبشكل مسقط، ونموذجه الأبرز هو القبيلة، وهو تمثيل يمكن تعميمه من رابطة النسب إلى روابط الانتماء الحزبي (القبيلة السياسية)، وما جرى في البرلمان التونسي لم يكن سوى توافقات بين قبائل سياسية فرضت مصالحها على الإرادة الشعبية.

خصّص بوبر الجزء الأول من كتابه إلى انتقاد أفلاطون باعتباره كان نموذجاً لمثقف يدافع عن المجتمع المغلق، لأسباب متعلقة بأصوله الأرستقراطية، جاعلاً من الاستقرار فضيلة الدولة وأن التغيّر فيها هو الشر الذي عليها تجنّبه، وعلى هذا الأساس بنى مدينته الفاضلة كـ "شيء شبيه بالسلف" (حسب عبارة بوبر)، وهذه المدينة تنظر بازدراء إلى المدن التي يتداول فيها الناس المناصب، ولعلها نفس النظرة التي واجه بها كثيرون الثورة التونسية منذ بدايتها؛ من أرستقراطيين مثل أفلاطون ومن منتفعين بامتيازات النظام السابق ومتورّطين فيه ومغرّر بهم وغيرهم.

كانت الثورة في تونس بين نهاية 2010 وبداية 2011 فتحة في تاريخ بطيء الحركة مرّ من خلالها حلم المجتمع المفتوح على الأرض، وكان مسارها محكوماً بعدد كبير من الرغبات، ليست فقط تلك التي يرفعها المطالبون بالحريات والتغيير علانية، بل أيضاً برغبات مخبأة في الصدور سرعان ما وجدت ظروفاً ملائمة لتتحوّل إلى أفعال وسياقات، بين خائفين من المحاسبة وخائفين من السقوط في النسيان وحائكين للدسائس تحت الطلب ولاعبين على حبال الأجندات الدولية، وكان أيضاً ثمة من انتفعوا للحظة بمزايا المجتمع المفتوح، ومتى بلغوا المواقع التي طمعوا فيها انقلبوا أنصاراً للنموذج المغلق.

قبل تمرير قانون المصالحة، جدّ في تونس تغيير حكومي من بوّابة البرلمان أيضاً ومن هناك عبر رجال تقلّدوا مناصب مع زين العابدين بن علي (بعضهم في المواقع ذاتها)، بل وجرى تقديمهم باعتبارهم كفاءات، في حين أن الكفاءة كلمة لا معنى لها في مجتمع مغلق، وأن الفشل في إدارة المجتمع التونسي يمتدّ إلى عقود سبقت الثورة.

هكذا يجري بوسائل السياسة التونسية تنفيذ طموح أفلاطون الذي يفضحه بوبر، أي أن "يحكم الحكام الطبيعيون، ويستعبد العبيد الطبيعيون"، أكثر من ذلك يجعل الفيلسوف الإغريقي هذا الطرح قوام فكرة العدالة. وليس أفلاطون سوى نموذج يتكرّر في كل الأزمنة، واليوم يصعد جهاز تبريري كامل لهذه الخطوات التي تعود بتونس إلى نقطة الصفر، ومنها وسائل إعلام كثيرة تتنكّر للاحتجاجات الشعبية ضد "قانون المصالحة" فتغيّبها أو تشوّهها.

لم تسقط تونس بعد في المربّع القديم ولم يجر ابتلاعها، ويبدو الأمر سلسلة من الحروب النفسية الصغيرة في سبيل إعادة "المجتمع المغلق" (أسرة حاكمة وقطيع)، ومن أجل ذلك لا بدّ من كسر الإرادة الشعبية تدريجياً. غير أن كل هذه المعارك الصغيرة لن تضرب الأمل في العدالة والكرامة والحرية ما دامت هذه الأفكار حية في الضمائر. وكذلك سيظلّ "المجتمع المفتوح" ممكناً، وإن صادفت ذكرى رحيل بوبر أن مساحة أخرى في تونس يقضمها "أعداؤه" على حسابه.

المساهمون