صدر قديماً: "مستقبل الثقافة" ومصادرات العميد

صدر قديماً: "مستقبل الثقافة" ومصادرات العميد

05 اغسطس 2017
(طه حسين وزوجته سوزان)
+ الخط -

لم يكن طه حسين (1889-1973)، حين نشر كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عن دار المعارف (1938)، يعرف أنه كان في نهجه وتصوّره لموضوعه، وما توصّل إليه، يعيش خارج حاضر مصر وزمنها، بل وخارج علوم وأدبيات ومكتشفات النصف الأول من القرن العشرين عربياً وعالمياً.

ولا أبلغ من الدلالة على هذا الغياب أو الإغماء العقلي من المصادرات التي يبدأ بها كتاب يطمح إلى تقديم رؤيا للمستقبل؛ مصادرة أولى: لا تَمتُّ مصر بصِلة طوال تاريخها لمحيطها العربي، أو الشرقي القريب بتعبيره. مصادرة ثانية: هناك جوهر ثابت اسمه العقل الشرقي، وآخر معاد له اسمه العقل الغربي.

مصادرة ثالثة: لمصر هوية "خالدة" مذ كانت ولم تتغير أبداً. مصادرة رابعة: مستقبل مصر محكوم بأن يتعلّم المصري "كما يتعلم الأوروبي، ويشعر كما يشعر الأوروبي، ويحكم كما يحكم الأوروبي، ثم أن يعمل كما يعمل الأوروبي، وأن يعرف الحياة كما يعرفها الأوروبي".

طبخة هذه المصادرات خليط من نظريات، أنتجتها أوروبا مطلع مرحلتها الاستعمارية، تقول بالعِرق المتفوّق، والعقل الشرقي المختلف بالماهية عن العقل الغربي، وخاصة تلك الدراسات الاستشراقية التي صاغت "شرقاً" تفترسه الخرافات، تمهيداً لاستعماره والاستحواذ على ثرواته، وأحيت ذاكرة روما في تقسيمها العالم إلى "غرب" متحضّر و"شرق" بربري، ووجهت علوم الآثار والتاريخ واللغة، لإحداث شروخ وفواصل بين سكان الوطن العربي، وفصل مصر بخاصة عن محيطها العربي وإلصاقها بأوروبا، إلى درجة أن الخديوي إسماعيل كان يبرّر حماقات رَهنه لمصر لدى صيارفة مالطا وباريس ولندن ويتلمظ بالقول إن "مصر جزء من أوروبا".

في هذا الوقت الذي كان فيه طه حسين يبدأ كتابه بالسؤال: أمصر من الشرق أم من الغرب؟ ثم

يقرّر أن ما يسميه العقل المصري الخالد في زعمه وغير التاريخي "غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء وليس شرقياً".

كانت منجزات عدد من علماء الآثار واللغات، مصريين من أمثال أحمد كمال باشا وأحمد فخري، وغربيين من أمثال الفرنسي ف. لوريه والإنكليزي ركس إنجلباك منذ مطلع القرن العشرين، قد رسمت صورة تكاد تكون جليّة للعلاقات الحضارية المتبادلة، بين مصر وجيرانها الأقربين في الجزيرة العربية ووادي الرافدين، قبل بداية ما يسمى عصر الأسرات، تمثلت بالعبادات وفنون الزخرفة والبناء واللباس، بل وتوصّل أحمد كمال باشا إلى أن المصرية القديمة هي أصل اللغة العربية.

هذه الدلائل كان من شأنها أن تخفف من غلو طه حسين في ما ذهب إليه، وكان لا يتنافى فقط مع ما توفّر من معارف منذ وقت مبكر، بل ويتنافى مع طبائع العمران وعوائده التي شرحها ابن خلدون قبل أكثر من ستمائة عام. إلا أن التركيبة الثقافية التي نشأ عليها، التركيبة الأدبية، بمعزل عن أي علم من العلوم، شأنه في ذلك شأن من برزوا في أعقاب ما سمي "عصر النهضة" في أواخر القرن التاسع عشر، كانت أشبه بالغمامة العقلية التي حجبت عنه دلائل مناقضة لظنونه ورغباته.

ولا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التفكير الآن، في ضوء التغيّرات الاجتماعية التي حلّت بمصر؛ صعود الطبقة الوسطى وظهور فعاليّة الطبقة العاملة، والتصنيع وتوسّع المدن، في النصف الأول من القرن العشرين، ثم صعود الحركة الوطنية مجدداً في الأربعينيات، وبصيغ أكثر وعياً وتطوراً، سواء من صيغة الحركة العرابية أو حركة العام 1919 المناهضتين للاستعمار البريطاني، بأن طه حسين بكتابه هذا، بنهجه الإنشائي الذي لا تعلّق له بالبحث العلمي، ومصادراته المستمدة من هلوسات النظريات العنصرية الغربية، كان خارج الزمان والمكان.

ولم يكن هو وحده في هذا، بل المناخ الثقافي كله تقريباً الذي كان يعيش مثله خارج الزمان والمكان، فأشاد به وبكتابه، ولم يعتبره كتاب الموسم فقط بل و"الكتاب الأول من نوعه بعد الاستقلال"، كما ذهب إلى ذلك سيد قطب حين كان لا يزال عاملاً في مضمار النقد الأدبي.

ولن يحدث ردّ فعل نقدي جاد على كتاب من هذا النوع، إلا بعد سبعة عشر عاماً مرت على

نشره، حين صدرت ملحوظة مهمّة، وإن مختصرة، عن عبد العظيم أنيس (1923-2009)، ومحمود أمين العالم (1922- 2009)، في كتابهما "في الثقافة المصرية"، الصادر عام 1955 في بيروت.

جاءت هذه الملحوظة في معرض نقدهما العنيف لكتاب "نحو تعريف الثقافة" للشاعر ت.س. إليوت، الذي لم يعالج حسب رؤيتهما مدلول الثقافة إلا في الحياة الإنكليزية الحديثة، و"انتهى إلى أن المسيحية هي الأساس الوحيد والقوة الموجهة للثقافة الانكليزية خاصة والأوروبية بوجه عام"، بينما كان رأيهما "أن الثقافة، كتعبير فكري أو أدبي أو فني أو طريقة حياة، هي انعكاس للعمل الاجتماعي.

الثقافة محصلة لعملية متعددة العوامل". وطرحا سؤالهما "ما هي حدود ثقافتنا المصرية، وما مشخصاتها ومعالمها؟"، وكان جوابهما هو التالي: "الدراسة الجادة لم تمس هذا الموضوع بعد.. وقد أفرد له طه حسين سطوراً في نهاية كتابه عن مستقبل الثقافة، ولكنها سطور غامضة غائمة، واكتفى بأن يقرر أن لمصر مذهبها الخاص في التعبير ومذهبها الخاص في التفكير"، وأشارا إلى أنه "إذا كانت الثقافة انعكاساً لعملية الواقع الاجتماعي، وكان واقعنا الاجتماعي كفاحاً من أجل التحرر، فإن علينا أن نحدد مدلول الثقافة المصرية من داخل إطار هذا الواقع المصري".

وبالطبع لم يهمل كلاهما في مقالات كتابهما المشترك، تفنيد خرافة التفرقة بين العقلية الشرقية والعقلية الغربية، التي جعلها طه حسين حجر زاوية في رؤيته للمستقبل، وخلصا إلى الحقيقة العلمية الثاقبة "أن العقل الإنساني واحد مشترك في خصائصه الجوهرية، وليس ثمة عقل شرقي وعقل غربي، أو ثقافة شرقية وثقافة غربية، وإنما هي اختلافات تقوم على أساس تغاير الملابسات الاجتماعية، وتمايز المستويات وتنوع العمليات الاجتماعية".

المساهمون