تداعيات في شارع يوتوبيا

تداعيات في شارع يوتوبيا

28 اغسطس 2017
(غرافيتي لـ"سام 3" في برشلونة)
+ الخط -

الشعر مثل الدولة الفلسطينية: يقترب ولا يصل. واللذيذ فيه، أنه كالأيديولوجيا الرأسمالية: لا يضع حدوداً بين الممكن والمستحيل.

أما الشاعر، فيكون بروليتارياً رثّاً لو حكمته جرثومة الحضور في العالم. فهو نقطة من بحر. بلا سبب، يستيقظ، وبلا سبب، ينام. وقد يحدث، بعد عقود، أن يسائل نفسه: لمَ أستيقظ كل يوم؟ لكنه منذ هوميروس إلى الآن لم يحِر جواباً، ولم ينتحر. فقط يقول: أحسد الشجرَ، لديه أسباب لينام. أحسده أكثر، أسبابٌ ليستيقظ.

ثُم، لا البحر هو ذاته في لحظةٍ، ولا الشاعر. البحر لم يخترع الخلود. الأخير فعَلَها تحت مسوح نبيّ. ورغم استياء الشعراء، يتوجّب القول إن الشعْر الكوني كالنفط العربي (حليف الرأسمالية المخلص): كلاهما يتشاركان في تقويض الأمل.

فماذا بعد؟ أحدُهم يتذكّر ماركسَ وهو يسلق البيضة: قال جاء ليغيّر العالم قال. الله يرحمه. واحد آخر من حشود حالمين.

أيضاً يتذكّر امرأ القيس بينما يأكلها: عاش مشاعية الصحراء، فيما تعيش أنت زواج السلطة مع المال. هنيئاً له على هداوة باله التي أنتجت بعر الأرام والفلفل.

على أن الشعر صلبٌ ومرن كثديي فلاحة. أو كما ـ لا مؤاخذة ـ الاحتلال. ومع مصابيح الزيت، يبدو رومانسياً أكثر: أخونا "اللانهائي". مين يجيب له زبدية فلفل غزاوي، ويأخذ كرت الإقامة أبو 5 سنين؟ فالمنفى، مرهفٌ كسكين قصّاب، كروح قصة قصيرة. ما العمل؟ ومع أنه ينسى عمّا يتكلّم، إلا أن السنوات الشحيحة لا تخلو من صباح بطعْم ساشا اللتوانية، فيا صباحَ الجوري الفلسطيني.

ويا صباح الرفاق اللاتينيين. فلاسفة بالفطرة، بدليل هذا الاستخفاف أفقياً ورأسياً بالوجود. مرة، في المترو، كان المتشرّد نائماً وهو واقف. من مقعده، رأى كوابيسه تتساقط عمودياً ثم تطرطش على الجالسين.

مرة ثانية، وقعَ على مكثاة بطيخ في أرباض برشلونة. فكانَ "ويلُ المشتاق إذا ذاق". في نفس اليوم، صديقته البراغوائية تشيح: "قطار يُعول، وجميع المحطات خالية. حتى هذا ليس في متناول شعر اليوم. فالقطارات صارت كهربائية، والمحطات ملأى!" وهو ضحك لها وعليها: أهذا فقط ما ينقص الشعر حسب رأسك المحلوق؟

تمضي هي لشأنها ويعود هو لجرحه. هذا التسابق في خطين متوازيين: خط التذلل للأعداء، وخط إذلال الشعوب. ملوكُنا يصلون، وهيهات أن نصل.

إلى غير ذلك، كلما اقتضت مصلحتها ذلك، تنام جينا أليخندرا وهي واقفة. وكلما اقتضت مصلحته ذلك، ينام سانتياغو سان خوان وهو يسبح.

أما ناتاليا دوس كواترو، فلا تقتضي مصلحتها أن تنام أبداً. فقط تغفو غفوات قصيرة أثناء الحديث مع الأصدقاء أو خلال العمل مع الزملاء أو قلي البطاطا مع طيف زوجها السادس.

هذا التضارب في المصالح، بين سكان العمارة السكنية رقم 136 في شارع يوتوبيا، هو الذي شكل العلامة الفارقة للحيّ البرشلوني.

إنه بعيد ومنزو، ولا تكاد تلمح أحداً فيه باستثناء يومَي نهاية الأسبوع. فالكل إما نائم أو صاح، خلا الأطفال. فهؤلاء تقتضي مصلحتهم أن يدرسوا ويلعبوا في الحدائق دوماً، دون أن تعنيهم وضعيات آبائهم وأمهاتهم.

وهكذا، بين النوم والأرق والدراسة واللعب وكتابة الشعر وعزف الكمان، تنقضي حياة سكان هذا الحيّ في إيبيريا، كما قُدّرت لهم، وكما رغبوها.

ليت الواحد مثلهم.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون