دفاتر السنوات السعيدة

دفاتر السنوات السعيدة

21 يوليو 2017
ريكاردو بيجليا
+ الخط -

بعد الجزء الأول من "يوميات إيميليو رينزي" المعنون بـ"سنوات التكوين" صدر الجزء الثاني من مذكرات الكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا (1941-2017) ويحمل عنوان "السنوات السعيدة"، وهو أحد الإصدارات الأدبية التي كان من المتوقع أن يشكل صدورها حدثاً أدبياً؛ لكن رحيل الكاتب ربما حجب الضوء عن الكتاب وسلّطه على الكاتب، الذي يعتبر واحداً من أهم كتّاب الأرجنتين وأميركا اللاتينية.

يقول بيجليا في معرض تقديمه للكتاب: "لديَّ، بسبب عيوبي كمؤرخ، حساسية خاصة تجاه التواريخ والتقدم المنتظم للزمن. المجهول الكبير هو السؤال الذي يرافقني خلال هذه الأسابيع المخصصة لنسخ دفاتري، وإملاء يومياتي ونقلها إلى البياض، كما يُقال، لقد كانت اليوميات تأملاً لتلك اللحظة من حياتي الشخصية التي تقاطعت فيها مع السياسة أو تم اعتراضها من قِبَلها، على سبيل المثال في هذه السنوات السبع التي أنكبُّ الآن عليها أهتم بشكل خاص بمعرفة كيف كنت قد عشت بين عامي 1968 و1975، حياتي الفقيرة، حياة شاب يطمح، لِنَقُلْ، أن يصير كاتباً (...). والآن، عند قراءة يوميات تلك السنوات السبع، السؤال الذي برز أمامي تقريباً مثل فكرة ثابتة لا تسمح لي أن أفكر في شيء آخر، هو ما هو الشخصي وما هو التاريخي في حياة كلِّ فرد؟".

كتقديمٍ لكتاب اليوميات للقارئ العربي، هنا بعض المقاطع التي تضيء الذاتي والتاريخي، في السنوات السعيدة والخصبة لريكاردو بيجليا:


الإثنين 25 مارس 1968
ولدت في 24 نوفمبر 1941، وبحثت في الصحف اليومية عن أخبار ذلك اليوم. بحثت في المكتبة الوطنية عن كل ما يمكن العثور عليه. الحرب كانت تملأ الفضاء الإخباري بكامله. كانت السادسة صباحاً حسب والدي، والسماء كانت تمطر.


الخميس 19 سبتمبر 1968
أعتقد أن أفضل ما كتبته في هذه الدفاتر، كان نتيجة للعفوية والارتجال (بالمعنى الموسيقي)، أنا لا أعرف أبداً ماذا سأكتب، وأحياناً هذا اللايقين يتحوّل إلى أسلوب.


الخميس 16 يناير 1969
بعد ظهر الأمس، أتى مانويل بويغ، متوتراً وحائراً، يبحث عن "إعجاب"؛ وأن يُخضع كتبه لاختبار الإثبات المستحيل، تستحوذ عليه فكرة وجود شخص لن يعجبه ما يكتب. يحكي لي عن خطة خورخي ألباريث، بإطلاق شفاه مرسومة بالألوان مثل رواية مسلسلة، ورغبته في كتابة رواية بوليسية حول عالم الفن والنقد الثقافي، اللذين يبدوان له مثل قتلة يغتالون الفنان الحساس والثقافة المضادة. وفي وقت لاحق، التقيت هيكتور شموكلير، الذي وصل حديثاً من فرنسا، وله رغبة في إطلاق مجلة (نموذج: لاكانزين)؛ كان مبهوراً بكورطاثار الذي صاحبه في باريس، ومفتوناً بموجة البنيوية (موجة بارت ومجلة تيل كيل).


الأربعاء 13 مايو 1970
كما هو الحال دوماً، ألجأ إلى الكتب، وأسحب عني المشاكل (الإيجار والمستقبل الاقتصادي)، وأدخل إلى أماكن مسيّجة، حيث أجربُ أشكال جنوني الخاصة: القراءة من الساعة الخامسة مساءً حتى الثانية بعد منتصف الليل، ثم بعدئذٍ من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر... آخذ فسحة للتنفس، أغيّر الوضعية، حيث أني بعد قراءة ثلاثين صفحة في يومين، أي بمعدل ثلاثين سطراً في الساعة، تأتي لحظة لا بد لي فيها أن أخرج إلى الشارع، أن أمر على المكتبات، وأن أبحث عن مجلد آخر أختفي خلفه كي أقتل اللامبالاة أو اليأس.

التنفس الاصطناعي. رواية الحاضر النقي، لأن ذاك هو زمني الطبيعي وذاك هو زمن هذه اليوميات، لا أتذكّر، لا أفكّر، لا أترك المستقبل يأتي. هذا هو منطق هذا الدفتر، حيث أدوّن اعتماداً على اللحظة الراهنة دون سرد.

كما من قبل مع الحكايات، ومع الكتب التي قرأتها، ومع موسيقيي الجاز، ومع لاعبي كرة القدم، ومع سلسلات الكوميكس، أضع قوائم. قوائم التسوّق، والأشياء التي يجب إنجازها، والأصدقاء الذين يجب رؤيتهم، والصديقات اللواتي ينبغي مكالمتهن بالهاتف، والمدن لا أعرفها، وفصول الرواية التي ينبغي أن أكتبها. القوائم كانت دائماً تطمئنني، كما أني لو دوّنتها، سأنسى العالم، وفي بعض الحالات، كما لو كان التدوين هو إنجاز لما أتصوره أو أعد به، وكما لو أن الرواية التي دونت فصولها قد كتبت بالفعل.


الإثنين 29 يونيو 1971
مات ماريشال (الجمعة؟)، بلغ غاية إنهاء روايته. ووفقاً لديفيد [بينياس]، لم يكن هناك أحد. متى أموت أنا؟


الإثنين 3 أغسطس 1971
قراءة الصحف الأسبوعية، تكشف عن اتساق في الخُطاطة المعدّة لاستهلاك الثقافة. إنهم يقومون أيضاً بتوليف في ثلاثة أو أربعة بنود، أو أسماء ما يسمونه "الحاضر"، والحالي، ما يطفو وسط الزائل من المتداول الثقافي.


الإثنين 17 يناير 1972
كل شيء ينطلق فجأة. الجمعة، عملية تمشيط للجيش في المبنى. لا يدخلون شقتي. "إنهم يبحثون عن زوج من الشباب"، في الطابق الرابع أو الخامس. بعد أسبوع، يوم الجمعة 14، يظهر ستة أشخاص من فرقة التنسيق الفدرالية. الرشاش في اليد عند المدخل. يوقظون بواب العمارة، ويسألون عني وعن بوردابيري. بعد العلم بذلك تبدأ الفوضى. أجمع كل الأوراق. الشقة في حالة فوضى. أقوم بثلاث رحلات. أخرج بعض الملابس، والرواية، والآلة الكاتبة، واليوميات. أترك كل شيء في بيت تريستانا صديقة خوليا.
لا بد لي أن أغير الشقة، والمكتبة، والملابس، والأثاث. أنقل الحقائب، محاولاً ألا أرى الكتب التي أتخلى عنها. أجمع الملابس والأوراق وأخرج، وأدخل عدّة مرات. أبحث عن سيارة أجرة، هادئاً أمام الأحداث الواقعة.


الثلاثاء 18 يناير 1972
أرى المحامين، وروايات متضاربة حول المستقبل (أأغير الشقة أم أعود؟)، اتفق الاثنان على أنه من الأفضل، أن يُمحى أثري حتى نهاية الشهر.
أعود إلى الاشتغال في الحانات، مثلما كنت يوم حللت لأول مرة في المدينة. موحشة مكتبتي، لأني لا أستطيع أن أواصل كتابة روايتي.


الإثنين 1 يوليو 1974
دعونا نبدأ من موت بيرون، يوم الإثنين بعد الروايات والحكي والتحسن. ذلك الاكتئاب بينما هو يحتضر. على الأقل بينما كانت تولد قصة موته، التي أظلّ بعيداً عنها. بعد الرابعة عصراً، عندما تركت البيت وبدأت أقلق من الطوابير أمام المحلات التجارية، (فكرت: "لدي زيت"، وفكرت: "ستأتي الطوابير كما هو الحال في الشيلي"). كانت مكتبة غاليرنا قد أقفلت. في الحانة يطالعني خبر وفاة الملك لير: دهشة عامة من جهلي بالخبر، الذي حرّك مشاعر العالم أجمع. "أين كنتَ أنتَ؟". مما زاد الطين بلة أني سأعرف أنَّ المدينة هادئة، من خلال ساوول سوسنوفسكي، وهو طائر لا مُسيّس يعيش في الولايات المتحدة، حينما التقيته لأعطيه فصلاً من دراستي عن [روبرتو] آرْلت لمجلة "هيسباميريكا". تراكمت حشود من الناس في الكونغرس مساءً، منتظرين بدءَ طابورِ إلقاء النظرة الأخيرة على الميت. أزورُ دافيد [فِينْيَاس] الغاضب بسبب برقية الـ PCR [اختصار الحزب الشيوعي الثوري] في تعزيتِهِ لإيسابيليتا [بيرون].


الخميس 18 ديسمبر 1975
في تقرير جريدة "كرونيستا"، تحدثتُ لأول مرة عن هذه اليومياتِ علناً، لنقُل هكذا. والآن بعد أن قدمتُ خبراً بذلك، سيكون من الجيد أن أبدأ أخيراً في كتابتها. أنزلُ لشراء شيء للأكل. في المحلّ جو من التفاؤل. تمَّ رفع القيود عنِ الملاحة الجوية، الانقلاب العسكري يسير بشكل عادي. ما يشبه الإحساسَ بكوارث قديمة، وأول فكرة تتبادرُ إلى الذهن: "سوف أمكث للعيش في باريس".


الجمعة 19 ديسمبر 1975
تستقر الأزمة. يعلنُ الطيارون عن برامجهم الفاشية. "بيديلا" يحتفظ بالجيش كحَكَم في الوضعية. جالساً في حانة كوريينتيس قريباً من رودريغيز بينيا. أقرأ كلماتي الخاصة، مقالي عن بريشت المنشور في كولومبيا. أتأخر في العودة إلى البيت.



* ولد ريكاردو بيجليا Ricardo Piglia في أدروغي الأرجنتينية، ودرس التاريخ في "الجامعة الوطنية للبلاتا". عمل في مجال النشر وسيّر لمدة دار Serie Negra، التي اشتهرت بنشرها لعدد من الأسماء الكبيرة في "أدب الجريمة". من بين ما صدر له في الرواية: "التنفس الاصطناعي" (1980)، و"المال المحروق" (1997)، و"طريق ذو اتجاه واحد" (2010)، ويومياته في جزئين: "سنوات التكوين" (2015)، و"سنوات السعادة" (الصورة، 2016).
**ترجمة خالد الريسوني

المساهمون