حتى لا يفوت شيءٌ

حتى لا يفوت شيءٌ

29 يونيو 2017
مقطع من عمل لـ عماد جميّل، تونس
+ الخط -

الكتابة اليومية المنتظمة في زاوية واحدة، بذات العنوان، تمرين أسلوبي عسير، رغم سهولة بادية قد تخدع القارئين. صاحبَت هذه الظاهرة الصحافةَ العربية، منذ نشأتها الأولى حتى مراحل اكتمالها. وكان من أعلامها المُكثرين في بدايات النشأة ناصيف اليازجي (1800-1871)، وبطرس البستاني (1819-1883) وجرجي زيدان (1861-1914)، وقد اقتصرت الصحافة وقتها على الجرائد الورقية.

وازداد عددهم بين المعاصرين مع انتشار الإعلام الالكتروني، وهم كثرة كثيرةٌ تغني عن ذكر الأسماء. وترسّخت الظاهرة منذ مطلع الألفية الثالثة، بفضل تسهيلات الشبكة العنكبوتية، ويسر الـتأليف والحصول على المعلومة المحينة باستمرار، فضلاً عن وفرة المصادر وحضورها الدائم. وللظاهرة بعدٌ سياسي ومالي يُرى في ميزانيات "إمبراطوريات الإعلام".

وحسب تصوّر فرناند برودال (1902-1985)، في "كتاباتٌ عن التأريخ" (1969)، أصبح الصحافي المعاصر يتطرّق إلى أطر الحياة اليومية، بدءاً من شؤون السياسة الخطرة، ومسائل الفكر والثقافة إلى ظواهر المجتمع الأكثر اعتياديةً. و"أحاديثه ذو شجون" يثيرها جميعاً في "زمنية قصيرة وخادعة"، بأسلوبٍ قصصي.

وكل خطاب سرديةٌ مستقلة، تسترجع الواقع وتعيد رسمه، دون براءة، ضمن تاريخية متحوّلة متموّجة، كما بيّن ذلك رولان بارت (1915-1980) في تحليله البنيوي للسرد. وهكذا، غدا الصحافي بمثابة مؤرّخٍ للبساطة، عارضٍ لتفاهات العناصر اليومية، والإنسان وليدها ومنشؤها.

ولا تكمن خصوصية هذا الجنس من الكتابة في طبيعة مضامينها فحسب، فهي شديدة التنوّع، تغطي باقةً من ثيمات التاريخ الصغير، وجلّها مما لا يخطر على بالٍ بسبب بساطته. وإنما تكمن في التعاود اليومي والرتابة الثابتة، وما لهما من تأثيرٍ في التلقي الجمالي والثقافي للنصوص الصحافية. وهذه بعض محاذير المتابعة الرتيبة لأشياء العالم:

أولها أن يصاب كاتب المقال، وقارئه المواظب، بحُمَّى متابعة الأحداث وتدوينها بشكل آلي، "حتى لا يفوت شيءٌ" مما يجعل الكتابة في ذاتها نوعاً من الملاحقة، يحرّكها التهافت على السبق، واللهاث وراء الجِدَّة، كي لا تفرَّ الأحداث من القلم الذي يغدو كشرطيٍّ مَوْتورٍ. وتنعقد بسبب الانتظام صلةُ وفاء (افتراضي) مع القراء و"المتابعين"، بالمعنى الفيسبوكي الحديث، فيكون المقال بمثابة موعد ثابتٍ، في فضاء نصي غائم، مسافاته سريعة، وأبعاده هُلامية، يلتقي فيه القارئ بالمبدع عبر سطورٍ تقرأ على عَجلٍ، ولكنه لقاءٌ ينتهي إلى الإدمان، ويحجب رؤية كُتّاب آخرين، يضيعون في غمرة الخمول، ويهيمن عليهم المشهورُون وإن بمقالاتٍ لا جودةَ فيها.

ولئن كان معلوماً أنَّ الكمية هي التي تخلق الجودة، فإنَّ هذه الأخيرة قد تتباعد بسبب إكراه الكتابة يومياً وقَيْد الرتابة. "اكتبْ ولا تَسعَ للجودة. المهم وصول مقالك قَبل تَسليم الصفحة"، ذاك هو قهر الصحافة المنخرطة في زمنية التعاود والمرور الخاطف. وتضاف إليها، وليست أقلَّ ضرراً، زمنية التسرع في عرض الأحداث ونقلها، وإبداء بادِئِ الرأي فيها، وغالباً ما تفقد المقالات قيمتها بعد أيام، بل ساعاتٍ من كتابتها، إن حصل في الصياغة سوء فهم أو خطأ تقديرٍ.

ومن سيئات الكاتب اليومي أن يسعى إلى تنويع الموضوعات "والأخذ من كل شيء بطرفٍ"، في صمود لافت لتصوّر الجاحظ (776-869) للثقافة، مع أنَّ الزمن عفا عليه، منذ تحتم الاختصاص في مجالٍ من المعرفة دقيق، ولا يفضي "الهيام في كل وادٍ" إلا إلى السطحية والعجلة، وقد تتحوّلان إلى انتهازية، فتصير مقالات الرأي من قبيل قصائد المديح وشعر المناسبات.

وفي المقابل، يخنق الاختصاص المفرط في جنس وحيدٍ من القول الإبداعَ، ويقضي على طاقاته الخفية. وأخطر من ذلك غياب المسافة الضرورية لفهم الحدث: فالكاتب اليومي يستعيده ولا يحلله، يستعرض منه الجوانب التي تعنيه ولا يفككها. مع أنَّ كل مقالٍ بناء للحدث وإعادة صنعٍ له.

فَأنْ نكتب مقالاً كلَّ يومٍ هو من مُتع الفكر، بل ومن تَرَفِه، وهو علامة الثقافة الواسعة والعبارة المنسابة التي تساير شعاب الخاطر السابح في العالم. وقد تحتاج هذه اللذة إلى مراقبة العقل المنهجي، وألَمِ الصرامة النقدية، حتى يظل المضمون عقلانياً، فلا تنقلب الصحافة إلى لغةٍ بلا مرجعٍ.

دلالات

المساهمون