الطاهر الشيخاوي.. هروب إلى قاعة السينما

الطاهر الشيخاوي.. هروب إلى قاعة السينما

21 يونيو 2017
(الشيخاوي في إحدى محاضراته)
+ الخط -

شاهدتُ الناقد السينمائي التونسي الطاهر الشيخاوي خلال مهرجان "أيام القاهرة السينمائية" الأخير؛ كان يجلس حول طاولة مستديرة ومعه قرابة عشرة من دارسي السينما والنقاد الشباب. يستمع إلى جميعهم بانتباه وتجده أحياناً يدوّن بعض الملاحظات في ورقة صغيرة.

وحين يتحدّث، يثير في خطابه أسئلة أكثر مما يقدّم إجابات. يفتح النقاش عن ماهية النقد السينمائي ومدارسه المتنوعة وما هي أبرز المهارات الأساسية التي يحتاجها الناقد وما الذي يميّزه عن المشاهد العادي، أو يتطرّق إلى مكانة الناقد في منظومة العمل السينمائي ككل، وصولاً إلى كيفية تطوير الكتابة النقدية في ظل التطوّر الذي تعرفه صناعة السينما.

لعل هذه الأسئلة وغيرها ترسم ملامح الناقد السينمائي التونسي، الذي يقول بأنه يحبّ أن يظل الناقد فرداً من الجمهور موضّحاً أنه شخصياً لا يفضّل استخدام كلمة "ناقد"، فيما يكفيه أن يُعرّف نفسه بأنه مُحب أو مُتابع للسينما، يقول: "الناقد في عالمنا العربي وهذه قضية مرتبطة ببنية المجتمع وتاريخنا وثقافتنا، يُصوّر دومًا على أنه سلطة وشخص يعرف أكثر من الجمهور وقاضي يحكم على العمل السينمائي؛ فيقول هذا جيد وهذا سيئ وهذا عظيم وذلك وضيع، وهذا أمر مزعج ويقضي على العملية الفنية، القائمة بالأساس على الخيال وكسر الأطر التي تم تكرسيها بوصفها قواعد وقوانين لا يجب الخروج عليها".

ويضيف: "أفضّل دوماً في ورش العمل أن تكون هناك مساحة أكثر للتفكير وطرح القضايا والنقاش حول الأفلام وعن الأفلام عبر الأفلام ذاتها، وليس من خلال التنظير وطرح أفكار مجرّدة، مع ضرورة الانتباه أننا نكتب عن السينما وليس القصة ولا الحكاية، وإنما كيف جرت معالجة هذه القصة أو تلك بأدوات السينما وهي الصورة والمونتاج وشريط الصوت والإضاءة والملابس وزوايا التصوير واختيار الممثلين وأداءهم، وغير ذلك من العناصر. كل ذلك علينا الانتباه له، لأن هناك الكثير من الكتابات التي تسقط في فخ حكاية ووصف الفيلم من جديد، دون الانفتاح على عالمه السينمائي وبالتالي تصير نسخة مكرّرة عن الفيلم".

يقيم الشيخاوي في مدينة مرسيليا جنوب فرنسا، وهو لا يخفي تأثّره بالمدرسة الفرنسية في النقد السينمائي، لكنه أيضاً لا ينصّب رواد هذه المدرسة مثل أندريه بازين وجيل دولوز وفرانسوا تروفو وغيرهم كآلهة لا يمكن المساس بهم، بل بالعكس يشير دوماً إلى كون هذه التنظيرات السينمائية التي أنتجوها تظل محلّ تساؤل واختلاف ويمكن قبولها وتطويرها أو رفضها.

يقول: "في النهاية نحن بصدد عمل فني وإنساني ولسنا حيال مواد وأرقام مجردة". يُوضح فكرته قائلاً: "ننسى كثيراً أن الفعل يسبق الوصف، والأفلام السينمائية تسبق النظرية، ومن هنا نقع في خطأ متكرّر، بأن نُدخل إلى الفيلم بتصوّرات مسبقة، وأفكار ونظريات نحاول تطبيقها على العمل، مما يجعلنا نرى شيئاً آخر غير الفيلم المعروض أمامنا".

لسنوات طويلة عمل الشيخاوي أستاذاً للأدب في الجامعة التونسية، وأدخل تدريس السينما للمناهج التعليمية. رغم ذلك سرعان ما أبدى نفوره من العمل التدريسي وإطار التعليم الجامعي التقليدي ليختار طريقاً آخر. يقول إنه كثيراً ما يفاجأ بأن الطلبة رغم نجاحهم وتفوّقهم يبقى وعيهم ثابتاً في مكانه ويُعيد إنتاج ما تعلموه دون أي إضافة أو معرفة حقيقية، لذلك قرّر أن يتوقف عن هذه الممارسة، وأصبحت محاضرته تقوم على مشاهدة الأفلام والبحث والتعلّم سوياً مع التلاميذ.

في هذا السياق، يقول: "لم يتفهم كثير من الطلبة فكرة العمل دون منهج واضح ومحدّد والسعي للبحث وإنتاج المعنى بشكل جماعي عبر الممارسة؛ فرحلوا إلى أساتذة آخرين لكن في النهاية صار الطلبة القليلون الباقون معي مدركين لضرورة فكرة الأصالة وأن يبحثوا عن صوتهم المتفرد وليس أن يكونوا صدى صوت لآخرين".

يضيف الشيخاوي: "سهل للغاية أن نذهب ونقرأ العديد من الكتب والمقالات، ونتعلم قواعد الكتابة وتقنياتها، ثم نشاهد الأفلام ونكتب عنها كلمات مقعرة ونكرّر مصطلحات معقدة؛ لكن يبقى كل ذلك بلا قيمة إن لم تكن علاقتنا بالسينما والأفلام علاقة فيها قدر كبير من الشغف والتفاعل والبحث المستمر".

كثيراً ما يتوقف الشيخاوي في وسط حديثه ليؤكد أن ما يقوله ليس نظريات علمية وإنما هو رأيه الشخصي وتصوّره عن السينما وعالمها الذي عشقه منذ طفولته وغيّر مجرى حياته تماماً، لذلك فهو مدين للسينما بكل ما وصل إليه وعاشه.

وحين يعود إلى طفولته، يذكر أنه نشأ في بيت محافظ وكان والده يُقدّس التعليم المدرسي والتقليدي، وأن المدرسة كانت نسخة مماثلة عن البيت، وفي الطريق بينهما كانت تقع دار السينما، لذلك كانت السينما هي المكان الذي يهرب إليه في طفولته، ليحقق فيه رغباته التي عجز عن تحقيقها خارجها، ومن هنا بدأ عشقه للسينما وتطوّر حتى أصبحت شغفه الأول.

هذه العلاقة الخاصة مع السينما يرى الشيخاوي أنها المدخل الرئيسي للكتابة بالنسبة إليه، فهو لا يستطيع الكتابة عن فيلم لم يحبه ولم يلمس شيئاً بداخله، لذلك لا يرى في الكتابة الذاتية أو الانطباعية تهمة أو عيباً، بل بالعكس يرى أن الكاتب ليس آلة مجردة ولكنه إنسان لديه حس ومشاعر تجاه ما عاشه في الفيلم، وتلك هي النقطة المركزية التي عبرها تُولد عملية الكتابة.

ولكن هذا لا يعني أن عملية الكتابة هي فعلٌ ذاتي ومجرّد تماماً؛ فالناقد من الضروري أن تكون لديه ثقافة عامة ومعرفة سينمائية واسعة، وقدرة على رؤية ما تحيل إليه الصورة؛ فالصورة في السينما ليست كالفوتوغرافيا، لحظة مقتطعة وثابتة، ولكنها صورة متحركة يظهر معناها عبر سياق من الصور السابقة واللاحقة، فهي لحظة تحمل بداخلها فردانيتها ولكنها في الوقت نفسه داخل سياق أوسع، كذلك يكون الناقد شخصاً داخل قاعة سينما لكنه موجود في سياق أكبر، وهذه واحدة من خصائص السينما الساحرة أنها تجمع ما بين الفردانية والمجتمع.

بطاقة من تونس/ مرسيليا
ولد الطاهر الشيخاوي عام 1945، وهو ينتمي إلى جيل تونسي أثرت نوادي السينما في وعيه وتوجّهاته، حيث مثلت هذه النوادي ظاهرة ثقافية في ستّينيات وسبعينيات القرن الماضي (الصورة). وهو إلى ذلك أحد مؤسسي "جمعية النقاد" في تونس، كما أدار مجلة "سينكري" وكان ينشر فيها مقالاته بالفرنسية. يقيم حالياً في مرسيليا وقد أدار سنتي 2013 و2015 "اللقاءات العالمية للسينماءات العربية"، وهو رئيس جمعية "أرخبيل الصور".

دلالات

المساهمون