سالار أحمديان.. مستقبلية الماضي

سالار أحمديان.. مستقبلية الماضي

14 يونيو 2017
من أعمال الفنان
+ الخط -

لا البهجة وحدها، ولا الطاقة ولا الحيوية، ما يجذب الأنظارَ إلى لوحات الفنان الإيراني المقيم في كندا، سالار أحمديان، المعروضة حتى التاسع عشر من الشهر الجاري في "قاعة بوشهري للفنون" في الكويت.

تكمن الجاذبية في شيء أبعد من ذلك؛ في حشد من الأشرطة الملوّنة بأشكال مختلفة، تدور وتلتف في حركة لا تتوقّف، تتجمّع وتتفرّق، تتشابك مراراً وتكراراً أو تشكل عقداً، بعفوية بالغة. بقايا كلمات، أو حروف كلمات تشير إلى ما كان ذات يوم فناً من فنون الخط الموروث، إلا أنها تتغيّر الآن وتتحوّل، وتتخذ أشكالاً مجرّدة بأعداد لا نهاية لها.

هنا نص ولون ينتسجان معاً، يمتزج موروث وحديث، تحت عنوان "من الماضي إلى الحاضر". يبتعد الفنان عن فن الخط الذي نعرفه، الفن الذي تقول كلماته شيئاً، أو تحمل معنى، ويتجاوزه ويبتكر لغة بصرية جديدة نلمح فيها تقانات البوب آرت الرمزية، واستقصاءات السيرورة السيريالية.

ويلاحظ ناقدٌ قدّم لمعرضه هذا أن التقانة الأقرب إلى الذاكرة التي يستدعيها هذا الفنان هي تقانة جاكسون بولوك (1912-1956)، ومارك روثكو (1903-1970)، وكلاهما أستاذ ما تسمى بـ"التعبيرية التجريدية" في الفن المعاصر. وتحت تأثير هذين اللذين يعترف أحمديان بتأثيرهما عليه، نجده يؤالف على قماش لوحته بين إرادته الفنية وضربات فرشاة منفلتة بلا يقين ومخيلته. هو يعرف تماماً ما كان يفعله بولوك وهو ينثر بقع ألوانه، ويعرف أنه مثله ينثر أشرطته وحروفه ولكن بدقة وانضباط محسوبين.

هنا مزيج من لب يمكن أن نسميه جوهر فن الخط الذي برع فيه بشكله التقليدي، وما حققه تاريخ الفن في الغرب من تطوّرات. تقود كل هذا رغبة في إيجاد جسر يربط بين شرق وغرب بأكثر الأشكال التجريدية بساطة.

وتتضح في هذا المزيج كيفية تجريد الخط بحيث يشبه الخط التقليدي، إلا أن حروفه تخلو من أي معنى من المعاني التي يشير إليه النص في المعتاد من استخدامات فن الخط في التشكيل؛ تجريد خالص من المحال معه معرفة ماذا كانت تمثل هذه الجذاذات الحروفية في الماضي، أو ماذا كانت تقول. لم يعد الخط لديه يمثل ما مثله طيلة تاريخه، بل أصبح شكلاً تجريدياً حداثياً.

ولكن هذا الفنان لم يرتكب الخطأ الذي ترتكبه عادة غالبية الفنانين الحداثيين، أي لم يُحدث قطيعة مع الماضي. يقول الناقد صاحب التقديم "لم يكن ممكناً أن يصل أحمديان إلى المعاصرة، تشكيلاً وتلويناً، لو لم يتأثر بالماضي".

تشير ألوانه وتومئ إلى معاني السعادة والنشاط والطاقة، وتستحضر أشكالها التجريدية شكل وملمس السجاد الإيراني الثري بألوانه، وحدائق الأرياف، ولا تتوقف عند هذه الإشارات إلى ما هو فارسي من منمنمات وتنظيم حدائق، بل تتخطى هذه الرمزية التي تزخر بها الثقافة التقليدية إلى اعتناق الحاضر المعاصر بما وصل إليه من تقانات وأحاسيس لونية في شتى الثقافات.

ولئن خلت لوحاته من أي عنوان يشير إلى ما تشكله أو تسمّيه، فإن أشكاله تمتلك بذاتها خاصية نقل المشاهد إلى عالم آخر؛ عالم لا تقيّده إرشادات وخيوط هادية وقواعد، وسيكون على من ينظر إليه أن يتخيّل شتى احتمالات تنظيم الصور والأشكال، وأن يعيد تفسير ما يراه بحرية بالغة بناءً على ما يحس به وينتابه من مشاعر.

ويرى ناقد تشكيلي آخر في هكذا تجربة "أن وظيفة فن الخط لدى أحمديان، بتكييفه المعاصر لصياغات الخط الموروثة، هي فتح الطريق أمام إمكانيات تناول سلسلة من الموضوعات تتضمّن أفكاراً فلسفية ذات صلة بما هو أخلاقي، وما هو غير أخلاقي". وتُظهر النمط الأخير، حسب هذا الناقد، بصرياً "حركة الألوان والأشكال الشتيتة باستمرار، بينما يمكن أن يعبر عن النمط الأول تشابك الخطوط وعناقها الوثيق".

ولا تفوت المشاهد، ذا المعرفة بخلفية هذا الفنان، ملاحظة أن أشكال الحروف الطويلة والغليظة ذات المظهر النحتي تخلق إحساساً بأشكال ملموسة، يدور بعضها حول بعضها الآخر في دوائر، وتستحضر عمله كصائغ ونحات ومصمم وخطاط تقليدي.

صحيح أن أشكال حروفه محددة ومنظمة، إلا أنها حرة أيضاً. وكأنها تؤكد على وجود البنية الثابتة ولكنها تعمل على إعادة صياغة جوهرها. أو كأنها إذ تؤكد على قيمة تراث الزمن الماضي تسعى إلى الوصول به إلى حالة يتصالح ويتآلف فيها مع الزمن الحاضر.

أخيراً، يلخص أحمديان هدف سعيه بهذه السطور الأبلغ تعبيراً عن طبيعة فنه: ".. أريد إبداع أسلوب خاص من أساليب فن الخط يكون موضوع اهتمام وتقدير الأوروبيين والأميركيين، والعالم العربي أيضاً".

المساهمون