ريكاردو هاوس كورونا.. في التغريبة التشيلية

ريكاردو هاوس كورونا.. في التغريبة التشيلية

09 مايو 2017
كورونا، من أمام صورة من فيلمه الأخير
+ الخط -
ثلاثية ريكاردو هاوس كورونا عن روبرتو بولانيو (1953-2013) اتخذت عنوان "الحرب المقبلة: تشيلي". وكان جزؤها الأول عن سنوات بولانيو العشر في المكسيك، فيما جزؤها الثاني عن سنواته الخمس والعشرين في كتالونيا، أما الجزء الأخير فتم تصويره في مدينتَي فالبارايسو وبينيا دل مار التشيليّتين، ليسرد لنا تلك المرحلة المبكرة من حياة مجدّد النثر الهسباني، الذي مات بداء الكبد عن 50 عاماً في مشفى "باي دي برون ـ وادي الخليل" في برشلونة.

"العربي الجديد" التقت المخرج المترحّل بعد عودته من سفر إلى تشيلي والمكسيك، بعد فترة من عرض فيلمه عن بولانيو في إسبانيا.


■ يبدو الجزء الأخير من ثلاثيتك كمشروع سيرة ذاتية طموح يسعى إلى إعادة بناء حياة الروائي والتركيز على علاقته بوطنه الأم، من خلال الأماكن التي قضى فيها طفولته وشبابه المبكر وكذلك الأصدقاء والأقرباء، قبل أن يرحل إلى المكسيك. كما يركّز على الخلافات التي اندلعت إثر زيارته الأخيرة وكيف تراوحت علاقته بوطنه بين الحب والكراهية. ولعل الكراهية زادت في ربع عمره الأخير؟

- دعنا نركّز على النقطة الأخيرة. علاقة بولانيو بتشيلي كانت مركبة وشفافة معاً. عام 1998 دعته ـ لأول مرة ـ مجموعة من شعراء وروائيين تحمل اسم "لِنوبيا نرّاتيفا تشيلينا". كان هؤلاء شباباً يعملون ورشَ كتابة في بيت عبارة عن تحفة فنية. وما أقوله هنا ورد في روايته "ليل تشيلي". هذه المجموعة لم تعجب بولانيو، لأنهم في ذلك المبنى الجميل كانوا يخصّصون الطوابق العليا للشعر والثقافة، بينما في بدروم البيت كانت حكومتهم تعذّب وتقتل الناس! وقد أحس من تلك الزيارة أن لهؤلاء وجهَين، ولهذا قطعَ معهم. قائدة تلك الورش كانت ماريانا كايخاس (شاعرة وكاتبة). عاشت مع متشرد أميركي اسمه مايكل تونلي. وقد كان هؤلاء هم اليد الخفية وراء اغتيال بعض وزراء أليندي في واشنطن دي سي وبوينس آيرس وروما. جميع الاغتيالات تمّت بالتنسيق مع ماريانا. هذا المناخ الموبوء والمفزع زلزل بولانيو، فرفض أن يعرفهم ويتواصل معهم، هو الذي كتب دوماً عن الفقراء والتقط نبض الشارع. بمعنى: كان خارج الثقافة الرسمية لتشيلي، وخارج مواضعاتها المستقرّة.


■ كيف تنظر إلى ما أنجزته عن بولانيو؟ هل تعتقد أنك قدّمت شيئاً جديداً؟
- نعم. في الثلاثية أخرجت أشياء غير معروفة عنه، لا في المكتوب ولا في المحكي. حاورت المسكوتَ عنه والمُطمور طويلاً.. وعسى أكون كسرت الصورة النمطية حوله ـ تلك التي تجيد تلفيقها ميديا المال المتوحّش.


■ كيف؟
- يصوّرونه كإنسان أحمق ومدمن مخدّرات. يحشرونه في هذه الزاوية. أعتقد أنني أعدت سردية حياته الحقيقية كي أقرّبه من الناس، بعدما ابتذله الشمالُ الأميركي. هناك يستخدمه الورّاقون (لا يستحقون لقب "ناشرون") من هذا الجانب لا غير. ولمَ؟ فقط من أجل إله الربْح. والصحيح الذي أعرفه أنّ بولانيو كان "باغابوندو"؛ صعلوكاً نبيلاً. فهو عندما ترك برشلونة، وذهب إلى مقاطعة جيرونا، كان محبطاً جداً. عاش في وسط غابة وقال عنها إنها أفضل مكان للانتحار. وأنا أعرف من صديقة مقرّبة منه قولَها إنه كان مجهولاً، معدماً، لا يعرف ماذا يفعل بحياته. هل في هذا ما يُبرّر كل تلك التخرّصات عنه؟


■ تقصد كمدمن للمخدرات؟
- نعم. لم يكن مدمناً. كان يتعاطاها في شبابه بشكل خفيف، مثل أبناء جيله. هذه هي الحقيقة. ثم لا تنس أن الكثير من الشباب ماتوا بسبب الإدمان في ذاك الوقت. ولو كان مدمناً لمات مثلهم.


■ من المرات النادرة التي وافقت فيها زوجته الكتالانية على الحديث للإعلام، قالت إنها وافقت فقط كي تنفي عنه تهمة الموت بتعاطي المخدرات. قالت إن زوجها "كان يشرب نعم، يتعاطى لا".
- لدي دليل آخر: أحتفظ بتسجيل صوتي لأمه فيكتوريا أفالوس تقول إن ابنها كان يذهب إلى شاطئ بلانس القريب من جيرونا ليساعد الشباب على ترك المخدرات. عاش بولانيو سنتين في برشلونة، ومثلهما في جيرونا، وعشرين سنة في قرية بلانس.. لم يُطق حياة المدن. كان يعتبر بلانس بلده ووطنه. خاصة منطقة وجود الصخرة التي تبدأ منها كوستابرافا. هو كان قرأ عن هذه القرية وهو طفل في المكسيك. لم يكن يحلم آنذاك بالعيش في أوروبا. وعندما زار تشيلي قال إنه عاش في المكان نفسه الذي قرأ عنه وحلم به. أحبها كثيراً ..


■ متى حدثت نقطة التحوّل المأساوية في حياته؟
- في سن الأربعين. في الأربعين أصيب بأزمة ـ عضال في البنكرياس، ولم ير الخير بعدها أبداً.


■ هل كان مصاباً بالسكرّي؟
- لا علْم لي. لقد كان منذ طفولته بصحة سيئة جداً.


■ أنت المولود في 1952، من جيل بولانيو. فهل عرفته شخصياً بحكم اهتماماتك وكونك كاتباً أيضاً؟
- كلا، فقط رأيته عن قرب. حيث كنا نعيش في نفس المكان. وأذكر كنت في العشرين من عمري، حين كان والدي يأخذني إلى مبنى الثقافة الشهير "كونديسا". وكان ثمة اجتماعات يعقدها كتّاب تشيلي الأكبر سناً، ومرة، في واحد من هذه الاجتماعات، رأيته هناك.


■ تقول: " أثناء بحثي عن سيرة بولانيو، وجدت هذا العالم الذي يتسق مع حياتي الخاصة: الأشخاص، الأماكن والثقافة. وهذا ما فتنني فشعرت ببولانيو وتأثرت به للغاية، حتى كان هذا العمل الدؤوب الذي لا ينقصه الحماس".
- حقاً، وأعتقد أن ثمة ثلاثة أسباب دفعتني لتكريس عقد من عمري له. الأول: أنه كاتب عبقري (بعيداً عن المعنى الإعلامي المبتذل للكلمة). كما أننا نتشابه حدَّ التماثل في أمور لا يتسع لها هذا المقام. السبب الثاني عاطفي: أنا عشت نفس الظروف والملابسات التي عاشها، فقد تغرّبت مثله في المكسيك والسويد وبرشلونة. وأذكر عندما وصل بولانيو برشلونة عام 1976، كان ثمة احتفال عظيم في ساحاتها وشوارعها. فقد كانت المدينة تستيقظ للتوّ من كابوس فرانكو الطويل. في ذلك الوقت بولانيو فكّر أن برشلونة هي أفضل وأجمل مدينة في العالم. (يضحك) .. ما زلت أومن برأيه هذا. السبب الثالث أنني كمخرج وثائقيات كنت محتاجاً إلى مثَل أو أيقونة. وقد وجدت فيه إلهامي.


■ كيف تصف تأثير الشتات على الثقافة التشيلية؟ خاصة وقد عشت بين مثقفين منفيين طوال سنوات طويلة؟
- هذا طريق معقّد وشاق، أقصد المنفى، لكنّه يفتح عقلك ويُوسّع مداركك. المنفى كاشفٌ للجوهريّ فينا، بمنأى عن طبقات المكياج. والمنفي يخلع ملابسه الأصلية ـ مضطّراً ـ ليكتسي بملابس من ثقافات مختلفة. لقد كان المنفى لبولانيو ثرياً جداً، إذ قال مرة إنه من غير المنفى لم يكن ليكتب ما كتب. وتقريباً ما قاله يقوله كتّاب تشيلي المنفيون. بمعنى: هذه الدياسبورا أغنت الثقافة التشيلية بالمحصّلة. لأنها تسمح لك أن ترى وطنك الأصلي من بعيد بشكل أوضح. المنفى حظ وفرصة وعذاب في آن. وعن نفسي أعتبر المنفى تجربة صعبة وجميلة، لأنه دفعني كي أفتح عينيّ جيداً.


■ سأقلب السؤال: كيف ترى تأثير تشيلي في كتب مثقفيها المنفيين؟
- حاضرة بكثافة، سواء بجانبها المشرق أو المعتم. تشيلي وطن مُعذِّب!


■ بعد عشر سنوات من التنقيب عن كل صغيرة وكبيرة في حياة بولانيو، كيف تنظر إليه الآن. وهل تستطيع أن ترسم له صورة خاصة؟
- أقول لك أننا بدأنا نكتشف بولانيو جديداً الآن. بولانيو الرائي السابق لزمنه. نحتاج أن نقرأه ونعاود قراءته مراراً. فهذا مبدع حقيقي ورجل ثقافة من طراز رفيع. ومن جانب شخصي، فهو شخص إنساني جداً بعيداً عن الكتابة.


■ هل شكّلت منافي بولانيو عوامل وحوامل إيجابية بالنسبة لأدبه؟ هل أثْرت حكاياته الخاصة؟ بمعنى: هل كان المنفى رافعة لإنتاجه الأدبي ـ الروائي والشعري؟
- لا ينتابني شك في ذلك، رغم الثمن الباهظ الذي دفعه كشخص.


■ بالعموم، يعتبر البعض أحكام بولانيو على الأدباء اللاتينيين قاسية؟
- نعم. بولانيو دمَغَ كثيراً من كتاب القارة الذين يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم الإعلام الثقافي كباراً بالرداءة ـ وأحياناً بما هو أقسى من هذا النعت. كان لديه غُربال دقيق الفتحات. كان يتمتّع بذخيرة الناقد المؤهّل، من ثقافة وعمق وإحساس، ليُفرّق بين الغث والسمين. كان مهتماً بشكل خاص بالكتّاب الشباب، أما المكرّسون، فقد اختار منهم فقط بورخيس، وقليلاً من نيرودا وماركيز. (يضحك ..) كان يقول عن إيسابيل أليندي تلك الجملة: "إسكريتوره؟ نو. إسكريبودوره؟ سي"! (كاتبة؟ لا. ناسخة؟ نعم). وكذا عن خوان فيورو، وألخيندروا سامبرّا، وبيدرو ليميبيل. كان حقيقياً وصادقاً وله رأي سلبي جداً في أنطونيو سكارميتا.


■ لا نريد أن نبدو محققين، ولكن إلى اللحظة ثمة غموض يحيط برحيل بولانيو، ماذا تقول أنت؟
- أعتقد أن بولانيو لم يكن يحب أبداً الحديث عن مرضه. ودائماً كان يقول أنه سيموت مبكّراً، حيث كان مسكوناً بالموت منذ يفاعته. كان مزاجه سوداوياً، وغالباً ما يُوصل هذا المزاج لمن حوله. أعتقد شخصياً أنه لو كان أعطى وقتاً أطول لرعاية صحته من الوقت الذي أعطاه للكتابة، لكان من الممكن أن يعيش أطول. أتذكّر شاعرنا المشهور نيكانور بارّا حين قال في اجتماع حاشد في المركز الثقافي في سانتياغو دي تشيلي: "يجب أن نتبرّع بكبد لبولانيو".


■ هل كان بولانيو يحبّ بارّا؟
- كان صديقاً مقرّباً له. وكان يعتبر بارّا كمثل أعلى للشاعر. ولعله كان الأقرب إلى قلبه من بين الجميع.


■ ما جديدك؟
- فيلم رابع عن بولانيو، شرعت في التحضير له قبل وقت وأنا في المكسيك. ربما أُسمّيه "المرآة السوداء" وسوف يكون مكرّساً للعين غير الإسبانية واللاتينية. كيف فهمَ وترجمَ المترجمون في قارّات العالم بولانيو؟ كيف وصل إليهم؟ وبأي عين يرونه؟ إنه شريط يحتاج إلى مجهود هائل.


■ لمَ اخترت الفيلم الوثائقي تحديداً رغم أنه كالشعْر لا يُطعم عيشاً؟
- أنا أحد ثلاثة إخوة ـ الأوسط بينهم. الأخ الأكبر كان يعمل في الديكورات. أُصيب بمرض الإيموفيليا ومات عن 33 سنة. وفاتُه أثّرت فيّ لأنه كان أفضل صديق لي. أخي الأصغر مريض ويعيش في المستشفى في سانتياغو دي تشيلي. وكما ترى: أنا الأوفر حظاً بينهما. ولدت في الرابع من سبتمبر. وهذا اليوم مهم، لأنه اليوم الذي ترشّح فيه المناضل سلفادور أليندي لأول مرة للانتخابات. وبعد 4 مرات من الترشّح لرئاسة تشيلي (وكان عمري آنذاك 18 سنة) فاز بالمنصب. سنة 1973، أي بعد 3 سنوات على عمله كرئيس، قصفوا القصر الرئاسي بالطائرات. قصفوه بإيعاز من اليانكي ودُميته بينوتشيه. اشتعلت النار بالقصر وبعد خروج الجميع أمسك سلفادور أليندي بالمسدس الذي أهداه إياه فيدل كاسترو وأطلق على روحه النار.


■ أول مرة أسمع هذا الكلام!
- انظر. مهمة مخرج الوثائقيات أن يكون شاهداً على عصره، وألا يكون ولاؤه لغير الحقيقة، بأوجهها المتعددة. لقد خرجت إشاعات كثيرة عقب مقتل الرئيس، كان خلفها يد المخابرات الأميركية. ولكنني أنا ورفاق عديدون كنا شهود عيان على ما حدث (بمن فيهم الطبيب الشخصي للرئيس وهو صديق موثوق مات قبل 3 سنوات فحسب). كنا في القصر تلك اللحظة ولكنني لم أر المشهد بنفسي. بعد ذلك أنت تعرف: خرج بشر كثيرون من البلد كلاجئين وبعضهم من المقرّبين للرئيس.


■ إلى أين؟
- هربوا إلى مناطق نائية في أقصى شمال تشيلي. والبعض من مقرّبي الحكومة هربوا من البلد كي يحموا أنفسهم وعائلاتهم. والدي هرب أولاً إلى المكسيك العاصمة، وبعد شهرين ألتحقت أنا به ـ وهكذا تحطمت الأسرة. أمي طبيبة الأطفال نزحت إلى منطقة أخرى من البلد بطفليها المريضين. فلأنها يسارية طُردت من عملها بعد الانقلاب. وأنا عشت لوحدي مع أبي. كنت طالب هندسة في تشيلي لمّا وصلت المكسيك. وفي المكسيك غيّرت دراستي وتحولت إلى دراسة المسرح والتلفزيون.


■ من درّسك؟
- ابتدأت المذاكرة والعمل مع اليوناني ديمتريوس سَرَّاس. وكان جاء من نيويورك جالباً معه أفكار المخرج ستانسلافسكي صاحب مدرسة ليستراسبرغ. كان يحاول هو وزملاؤه توطين أفكار المخرج الروسي في المكسيك. وأذكر من أصدقائه كان أل باتشينو (ممثل) وبربارا سترايسند (مغنية). وداعاني سراس للعمل معه كمساعد مخرج في قناة (تلفيسا) وكانت في وقتها أكبر شركة في العالم الناطق بالقشتالية.


■ متى بدأت أول فيلم كمخرج؟
- اشتغلت على أفلام أطفال وبعد سنوات أسست شركتي الخاصة ونذرتها للفنون والآداب. وكان الهدف توصيل الثقافة إلى كل مكان ممكن أصله في تلك المناطق الفقيرة والنائية من المكسيك. فهذا البلد ذو الـ 52 لغة (وثمة لغات غير معروفة فيه بعدُ)، يحتوي على كنوز من المعرفة.
كنت أحمل الكاميرا وأذهب إلى أبعد المناطق. وكان البشر العاديون العاملون معي هم أبطال أفلامي. وعليه كان فيلمي الأول عام 1985 بعنوان "بوسوس" عن غواصي منشآت النفط تحت البحر. هؤلاء ينزلون بعمق 80 متراً لإصلاح الأرصفة.
عمل شاق وقاتل ولا بد فيه من العمل كأزواج: واحد يعمل والثاني يعتني به. ومرة أخرى كي يترّبح لصوص القارة المنهوبة!
كل ما ورد أعلاه من تفاصيل هو دافعي نحو خياري هذا منذ 40 عاماً.


■ كلمة للمثقفين العرب المعجبين ببولانيو؟
- تابعوا هذا الخلاق، بولانيو، فعمله يفتح نوافذ جديدة على اللغز البشري.

المساهمون