أرنو غرين: إنكار العواطف والجرائم التي تتبعه

أرنو غرين: إنكار العواطف والجرائم التي تتبعه

23 مايو 2017
أرنو غرين
+ الخط -

سعت مختلف الردود النقدية على "عقل الحداثة" وانحرافاته، سواء في داخل الفلسفة أو في مجالات العلوم الإنسانية المختلفة، ومنها التحليل النفسي، إلى إعادة الاعتبار إلى "العلاقة" وبلغة أخرى إلى اآخر، الذي سعت الحداثة إلى تدجين اختلافاته وإلحاقه بنظام الأنا.

ويمكننا من كارل ماركس وحتى مدرسة فرانكفورت، مروراً بسيغموند فرويد، ولكن أيضاً من هرمان كوهين إلى إيمانويل ليفيناس، وبالفلسفة الحوارية كذلك، أن نزعم بأن "العلاقة"، هي العنوان الكبير لنقد الحداثة، وعقلانيتها المكتفية بذاتها، وإذا اتخذت العلاقة صيغة جدلية لدى ماركس، وبلغة أخرى لم تتجاوز الأيديولوجيا في خروجها على الهيغلية، فإن التحليل النفسي يمضي خطوة أبعد في فهم العلاقة، وتبيان النتائج الكارثية المترتّبة على كبتها داخل العقلانية الحديثة، وأعني بذلك خصوصاً التحليل النفسي كنقد للمجتمع والحضارة.

يمكن أن نضرب مثلاً في هذا السياق بأعمال المحلل النفساني، الألماني السويسري، أرنو غرين (Arno Gruen)، والذي نجح في فضح العلاقة البنيوية ـ اللاعلاقة ـ بين "قيم الطاعة" و"العقلانية الباردة"، أو عقلانية الحداثة. وهو ما يؤكده في كتاب بعنوان "ضد العقل البارد" (Wider die Kalte Vernunft) الصادر بعد رحيله عن مؤسسة "كلات - كوتا" في شتوتغارت.

يرى غرين (1923 - 2015) بأننا لن نفهم تاريخ الإنسانية، من دون اعتبار تطوّر "العلاقة أم/طفل"، بل إنه يوضح طريقة اشتغال العقلانية الحديثة، باعتبارها كبتاً للطفولة وللعلاقة، وهو يتساءل مع بيتر غستيتنر في كتابه المشهور: "غزو الطفل من طرف العلوم: لمحات من تاريخ الترويض"، كيف أخفقت العلوم الإنسانية في الاهتمام بقضية مركزية، مثل هذه القضية؟ ولماذا ما زال الأنثروبولوجيون إلى اليوم يتمسّكون بنماذج التطوّر الإنساني، والتي ترى أن "المتوحشين" "بدائيين"، وأن "البدائيين" "سذج"، وأن "السذاجة" طفولة، والتي هي مرحلة أولية من مراحل التطوّر المتقدمة؟

إن ربط تقدّم المجتمع بالتفكير هو إحدى النقاط الأساسية التي ينتقدها المحلل النفساني الألماني السويسري، معتبراً أن التقدّم لا يجب اختزاله في التقدّم التقني والتنظيمي، بل إن معيار التقدّم يكمن في رأيه، في طبيعة التعامل الذي تخصّ به ثقافة ما، الحلقة الضعيفة داخل المجتمع، مثل الأطفال والمُسنّين والعُجّز وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم..

إن التطوّر يترافق في هذا المعنى أيضاً مع خسارة للإنسانية. ومن أجل فهم ما الذي خسره البشر وما الذي ربحوه في تاريخ تطوّرهم، يتوجّب حسب غرين أن نأخذ بعين الاعتبار التعاطف والتعاون مع الآخرين كعوامل أساسية.

وفي هذا السياق، يجب النظر إلى الطاعة كعامل للتطوّر الاجتماعي، وكمرحلة متأخرة في هذا التطوّر، ارتبطت بالسلطة والعنف والملكية. كما أن الإنسان ليس مرتبطاً فقط بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، كما أوضح ذلك محلل نفساني ألماني آخر سبقه هو إريش فروم في محاورته النقدية مع هربرت ماركوزه، وهو ما يعني أن مرحلة العلاقة بين الطفل والأم تؤثر في تطوّر جوهرنا الداخلي بشكل كبير، بل إن ماركس نفسه سينتقد في كتابات الشباب تحويل الحياة الإنسانية إلى قوة مادية.

إن قيمة التعاون هي نتيجة للعلاقة بين الطفل والأم، وإذا ما تعرّضت هذه العلاقة للخلل، فإن ذلك سيؤثر بسلوك الطفل حين يصبح راشداً وبعلاقاته بالآخرين، بل إن الأنثروبولوجية سارة بلافر هاردي أكّدت بأن التعاون والإحساس بالآخرين أهم العوامل المؤسسة للتطور البشري، وهو نفس ما ذهب إليه كارل غوستاف يونغ، معتبراً أن النموذج السلوكي الذي يقوم على التعاون، يستغل بشكل أفضل القوى النفسية للإنسان، بعكس النموذج القائم على السيطرة والتراتبية.

في هذا السياق، يرى صاحب كتاب "خيانة الذات"، أنه ولأجل فهم أفضل للتاريخ القديم والحديث، أن أصل وتطوّر الوعي الإنساني يملك أهمية كبيرة في هذا السياق، معتبراً أن التجريدات التي تصف اليوم ذهنيتنا؛ مثل الشرف والشجاعة والبطولة كرمز للقوة مثلاً، والإحساس والألم كعلامات للضعف؛ هي مميزات وعي، لم يكن دائماً مميزاً للبشر، بل إن هناك من الباحثين من يؤكد بأن قدرتنا على فهم الواقع وقدرتنا على التعلّم تعانيان الضعف، حين تسيطر علينا مفاهيم مجرّدة مثل الفخار القومي والنقاء الأيديولوجي.

يقول غرين "فأيديولوجيّتا الشرف والقوة الذكوريتان، لا تملكان قاعدة جينية، ولا هما نتيجة تطوّر "طبيعي""، كما أنه يفهم القلق والسلوك القلق، كنوع من التعويض عن تلك الحاجة إلى الأمان التي لم يتم إشباعها في العلاقة بين الطفل وأمه. بل إنه يرى في الطاعة -التي تعتبر الخاصية الأساسية للحضارات الكبرى- يرى أنها تقوم على إضعاف العلاقة والشعور بالآخر.

إننا أمام عقلانية ديكارتية تطالب البشر بالتحرّر من طفولتهم ونسيانها، فالمثال الإنساني لدى ديكارت، هو "ذات فارغة، يتوجّب ملؤها بمضامين موضوعية".

إن الأمر يتعلق بعقل يرفض العاطفة، ويتماهى مع الفكر المجرّد، الذي يحرمنا، في نظر أرنو غرين - للمفارقة - من رؤية الواقع. إننا أمام وعي مجتثّ، لا ينكر فقط الألم والطفولة، ولكن كل المجال العاطفي، وهو ما انتقده الفيلسوف يوهان جيورج هرمان لدى إيمانويل كانط مثلاً، معتبراً أن المحسوس والروحي يمتحان من المعين نفسه، ومحذّراً من برودة الفهم والكلف المرضي بالعقل.

هكذا، يصبح إنكار العواطف باسم العقلانية والتطوّر، في نهاية التحليل، هو الذي يقود إلى قتل الآخرين باسم قيم كثرة منها الديمقراطية والتقدّم، وذلك من دون إحساس بالذنب.

إنه قتل لا يختلف كثيراً عن القتل الذي مارسه النازيون خلال الحرب العالمية الثانية، يقول أرنو غرين. ويكمن الاختلاف الوحيد في رأي المحلل النفساني الألماني السويسري، في أن الكثير من الناس الذين يقومون بذلك في المجتمعات الديمقراطية، ما زالوا يملكون علاقة بوعيهم عن الألم والمعاناة، وهو ما يظهر بوضوح في الأمراض النفسية التي يعاني منها قدماء المحاربين في الديمقراطيات الغربية.


بعد خيانة الذات
قبل إصداره الأخير "ضد النقل البارد" (الصورة) بعد رحيله، برز أرنو غرين بفضل مراوحة بين تخصّصه في علم النفس والمقاربات الفكرية للشأن السياسي. كان أول إصداراته "خيانة الذات" (1984) بعد سلسلة مقالات بدأها أواخر الستينيات، ليلمع اسمه في الأساس بفضل كتب ذات نفس شعبي كان أوّلها "الصراع من أجل الديمقراطية" (2002)، ثم "مقاومة الخضوع" و"مقاومة الإرهاب" (2014 و2014) جمع فيها بين العمق والتبسيط.

المساهمون