"المكشوف والمحجوب": أكثر من وجه للعري

"المكشوف والمحجوب": أكثر من وجه للعري

24 ابريل 2017
مينيكه شيبر/ القاهرة
+ الخط -

"باريس تقول قصّروا الفساتين... نقصّرها/ ترجع تقول طوّلوا... حالًا نجرجرها/ وفي الشتا قوّروا القمصان... نقوّرها/ وفي الصيف زرّروا الأرواب... نزررها"، كتب بيرم التونسي تلك الكلمات في أوائل القرن العشرين، في خضم معاداة الاستعمار والبحث عن الاستقلال الوطني. وإذ تبدو قصيدته الزجلية منددة بالانسحاق أمام الغرب مجسّداً ذلك في إكراهات الموضات النسائية الأوروبية على المرأة المصرية، فإنه على الطرف المقابل أنهاها- كحل مقاوم لهذا الانسحاق- وللمفارقة بإكراه مماثل على أجساد النساء، بحيث تُسلم باريس وتصوم وتصلي "عشان ما تصبح سعاد وأم الهنا ونيللي، غير ربنا ذو الجلال ما يشوفش ضوفرها".

بين هذين الإكراهين، إكراهات الموضة وإكراهات السلطة بتنويعاتها المختلفة، يدور كتاب "المكشوف والمحجوب، من خيط بسيط إلى بدلة بثلاث قطع" لأستاذة الأدب المقارن والروائية الهولندية مينيكه شيبر، وأغلب الظن أنها لم تقرأ بيرم، وقد صدرت الترجمة العربية لكتابها مؤخراً عن دار "صفصافة" المصرية بترجمة الشاعر عبد الرحيم يوسف.

وفي حوار جمع الكاتبة والمترجم مع "العربي الجديد" قالت شيبر إن فكرة الكتاب راودتها أثناء العمل على كتاب آخر بعنوان "آدم وحواء في كل مكان" (2012)، وهو كتاب عن أول الكائنات البشرية في اليهودية والمسيحية والإسلام. لقد وجدَت إصراراً من الأديان الثلاثة على تغطية الأعضاء التناسلية كفريضة على كل البشر، منذ أكل آدم وحواء الفاكهة المحرمة في الجنة. وتضيف في مقدمة كتابها "بعد مخالفتهما لأمر الله انتهت براءتهما فجأة. تقول القصص إنه في هذه اللحظة ولد الخجل، متضمناً الوعي بأنه يجب تغطية العري، وهي فكرة تجذرت في التراث الغربي وفي كثير من الثقافات الأخرى كذلك".

تساءلت صاحبة "إياك والزواج من كبيرة القدمين" بدافع من القصة السالفة عن "كيف ولماذا نغطي أنفسنا؟"، وكذا "لماذا يُظهر معظم الناس أياديهم وأنوفهم وأفواههم ووجناتهم وعيونهم للآخرين دون الكثير من الحرج، لكنهم يميلون عادة إلى إخفاء أعضائهم التناسلية ومؤخراتهم؟".

وعبر تسعة فصول ومقدّمة تأخذنا شيبر إلى دراسة ثقافية "تجمع بين الأنثروبولوجيا والتاريخ والأدب والأديان المقارنة، في رحلة تتتبع تطور نظرة الإنسان إإلى جسده وإحساسه بالخزي أو الاعتيادية لعريه" وفق ما يقول المترجم في تقديمه للكتاب.

الملاحظ في الكتاب أنه ليس تأريخاً للملابس وتطورها، كما أنه ليس دعوة إلى التعري، إنما هو في الحقيقة استكشاف لمشاعر الخجل، كيف تولدت وما أسباب تولّدها؟ على أنه وإن كان التعري يقدّم كفعل لا أخلاقي، كما تراه المؤسسات الدينية أو سلطة المجتمع أو سلطة النوع، فقد يكون الاحتجاج بالعري ذاته ينطلق من على أرضية الأخلاق ذاتها وإن بصورة مناقضة لفعل الحجب.

ولا تمانع شيبر في أن الأمر يبدو كذلك أحياناً، بل حتى يعتبر هدفاً للبعض "فهناك مهرجان سنوي يقام في مدن أوروبية عديدة بعنوان as bare as you dare "عارياً بقدر ما تجرؤ" هو بمثابة جولة مطولة بالدراجات الهوائية يقوم بها عراة بغرض الدفاع عن البيئة، ويعتبرون عريهم بمثابة عودة إلى الطبيعة".

هؤلاء الطبيعيون يستعيدون إرثاً قديماً من الشعوب التي أسماها الرحالة والمستعمرون الأوربيون "بدائية". وعبر حفر أركيولوجي في الذاكرة القديمة تنقل شيبر ما رواه الرحالة الغربيون أنفسهم الذين عاشوا بين أناس كانوا يتجوّلون عراة، ومدى اندهاشهم أو استيائهم مما يرون. مثلا "في منطقة الأورينوكو الأميركية أصاب اليأس الأب الورع جوميلا عندما رأى الهنود يلقون كل الأقمشة التي وزعها عليهم بنيّة حسنة إلى البحر"، وتضيف أيضاً أنه "في مذكرات رحلته ذكر المستكشف والأنثروبولوجي جاكوليو أن أبناء قبيلة الدنكا (في السودان) كانوا فخورين بعريهم، بينما كانوا يطلقون باستهجان على الرحّالة الذكر المغطى بالملابس "السيدة التركية".

فرض المستعمر الأوروبي على السكان الأصليين ارتداء الملابس، كما لعبت الأديان دوراً هاماً في تغطية أعضاء الجسد على ما تؤكد شيبر، وطوال التاريخ ظلّ أصحاب السلطة هم من يفرضون القواعد، حتى سلطة النوع بفرض الذكر على الأنثى تصوراته عن العيب والحشمة على جسدها قبل جسده.

لكن أحد الأمثلة المثيرة للانتباه وغير القديمة نسبياً (أواخر القرن التاسع عشر) التي تطرحها المؤلفة في كتابها تخص انشغال الجنس الذكري بنفسه ومحاولة تقييد شهوته. تشير إلى أن بداية التغطية الجسدية كانت حكراً على الرجال، وتحديداً تغطية العضو الذكري أو جزءًا من مقدّمته، حيث "في كل المجتمعات التي كان يجب تغطية الحشفة فيها أمام الناس، كان الرجال يتحملون مسؤولية قضبانهم ذات السلوك غير المتوقع" تعلق صاحبة "أصل كل الشرور: أمثال ومقولات أفريقية عن النساء" بالقول "وهو موقف جدير بالملاحظة إلى حد كبير عندما تفكر أنه كيف بمرور الزمن أصبح اللوم على إثارة الذكر يوضع بشكل أساسي على الجنس الآخر".

لشيبر ثلاث روايات، لكن شهرتها كما يشير مترجم كتابها جاءت من دراساتها حول أدب المرأة والدراسات الأدبية عبر الثقافية، ولها في هذا ما يقرب من 20 كتاباً. وقد صدر كتابها هذا بالهولندية في أيار/ مايو 2015، لكن المترجم عبد الرحيم يوسف ترجم الكتاب عبر نسخة إنكليزية كتبتها المؤلفة بنفسها ولم تصدر بعد.

اللافت أن الترجمة الحرفية لعنوان النسخة الإنجليزية من الكتاب ستكون "عراة أم مستورون"، لكن الناشر المصري راجع المترجم بخصوص إيقاع العنوان غير الجاذب وطلب منه التفكير في عنوان بديل. يقول عبد الرحيم "لما رجعت للنسخة الهولندية وحاولت ترجمة العنوان الهولندي للإنكليزية وجدته بمعنى العاري والمغطى. يعني هذا أن المؤلفة بنفسها أدخلت تعديلاً على العنوان حين قامت بترجمته للغة اخرى".

يمكن أن يندرج ما قام به مترجم الكتاب تحت عنوان "الترجمة الثقافية". إنه نقل، ليس من لغة إلى أخرى، ولكن من حال ثقافة وواقعها وصورة لغتها، إلى ثقافة أخرى بكل حدودها، يصدق هذا أيضاً على ترجمته لكلمة shame، والتي يقول إن الكاتبة استخدمتها كثيرا بمعانيها المتعدّدة: الخزي، والخجل، والعار، والعيب، فيما آثر هو "استخدام المعاني المتعددة للكلمة وفقا للسياق".

تصدق كذلك تلك الترجمة الثقافية على كتاب شيبر ككل، والذي ساحت فيه جغرافيا وزمانيا، عبر أماكن وتصورات عديدة (منها حتى المنطقة العربية والإسلامية، وتصورات الإسلام والمسلمين) محاوِلة سرد حكاية انشغال الناس بالجسد العاري. وتعريفاتهم العديدة والمتنوعة للعري، وكذا القواعد التي تحدد أي الأجزاء يجب تغطيتها في المجال العام، أو كما تقول "بتوضيحه لحدود ظهور الجسد يسعى هذا الكتاب حثيثا عبر تاريخ البشرية، مستكشفا وجهات النظر المتباينة حول الجلد البشري بتأثيراته غير المتوقعة على الناظرين، سواء كان هذا الجلد بلا زينة أو متجملاً، مخفياً باحتشام أو مرئياً على نحو فاضح".

المساهمون