على أنقاض الحضارات

على أنقاض الحضارات

19 ابريل 2017
("أشوربانيبال وإلهه"، من آثار مدينة نمرود العراقية)
+ الخط -

حين بدأت آثار وادي الرافدين، الممتد من أعالي الفرات إلى الخليج العربي، بالظهور في أواخر القرن التاسع عشر، وبدأت -بقصصها وأساطيرها المسجلة على الألواح الطينية- الحديث وسرد وقائع تاريخية مختلفة تماماً، بل ومناقضة لما كان يعتبر "تاريخاً" حتى ذلك الزمن؛ استنفرت أوساط الخطاب التوراتي الذي كان الناطق الوحيد باسم "الماضي" الغائب، قواها، وبدأت تهاجم المكتشفات الجديدة، وتحاول مراوغة النور الذي تَسلّط على ظلمة تواصلت لعدة قرون. 

ولأن قلاع هذا الخطاب كانت راسخة في أكاديميات وأديرة الغرب التي لم تكن جذورها الحضارية المتخيّلة، بل وجذور حضارات العالم، تمتد إلى ما هو أبعد من العصرين اليوناني والروماني، بدأت الحملة على التراث الذي كشف عنه المنقبون في تلال ما كان يُسمى حتى وقت قريب "الشرق الأدنى". أحد أساتذة ما سُمي عصر النهضة، اسحق كاسوبن، زعم أن هذا التراث، والآشوري بخاصة، تراث زائف وملفق!

كان وراء هذه الحملة شيء غامض لم يبدأ تبيّنه إلا حديثاً، وهو أن هذه المكتشفات التي تحمل نصوصاً مكتوبة في وقتها، ومدوّنة على ألواح تصلّبت، وتيسرت قراءتها بحروفها المسمارية، كانت تُخرج الشرق من صفحات كتبة نصوص توراتية توهّم العالم لزمن طويل أنها نصوص تاريخية. أو بدأ العالم يقرأ شرقاً "غير توراتي" كما رأى بعض الباحثين.

وكانت لهذه القراءة نتائج سياسية/اجتماعية/عقائدية أخذت بتلابيب أساطير شوّشت مجرى التاريخ وجغرافية الأمكنة والأزمنة، وتنامت في الغرب أيضاً بوادر ظهور مدرسة جديدة أصبحت تُدعى الآن "مدرسة كوبنهاغن" تضم عدداً من الباحثين، أخذوا على عاتقهم تخليص تاريخ الوطن العربي بعامة، وتاريخ فلسطين بخاصة، من القبضة الخانقة للخطاب التوراتي.

اعتماد هذه المدرسة الأول هو على "علم الآثار" وليس على مدونات ونصوص دينية وأسطورية، وبدأ هذا العلم يخوض مقاومة موازية لمقاومات أخرى على الأرض، ضد الخطاب التوراتي الذي هو أحد أعمدة الحركة الاستعمارية، سواء تلك التي اتجهت إلى آسيا أو أفريقيا أو الأميركيتين.

وما نشاهده على شاشات الفضائيات من أخبار تجسد تدمير آثار وادي الرافدين، ومتاحف بلدان عربية مثل مصر واليمن، وسرقة ما خف وزنه وارتفع ثمنه، ليس سوى جزء من الرد التوراتي على هكذا مقاومة، ومحاولة لإعادة تاريخ المنطقة إلى حظيرة الدرس التوراتي، ولا يتم ذلك إلا بتغييب الآثار المادية، ومحو أي قصة تخالف قصص التوراة.

صحيح أن هذا يبدو وهماً ومحالاً، لأن كل شيء مسجل وموثق، ولكن رهان القوى الهمجية، وهي الأدوات الاستعمارية الجديدة، قائم على امتداد الزمن وتطاول عمليات الإبادة الثقافية والبشرية والمادية. ولو أخذنا مثلاً ما حدث من إبادات لحضارات راسخة قديماً في أميركا الوسطى وغربي أميركا الجنوبية، هل يمكن القول إن تلك الإبادات لم تكن لصالح الهمج الأوروبيين؟

في زمننا الراهن يُشار إلى خطر إبادة الآثار العربية، والفلسطينية على رأس القائمة، ولكن لا يكاد يُلقى ضوء على المقاومين على هذه الجبهة، من عرب وأجانب تتزايد أعدادهم، بل ولا تأخذ المدارس العربية، بما فيها الجامعات، هذه المقاومة مأخذاً جاداً، وكذلك وسائط الإعلام العربية.

فالكل مشغول بالمفاوضات والتسويات، سواء كان من قطيع الثيران البيضاء أو السوداء، ولا ينتبه إلى ما يحدث على صعيد المقاومة بالعلم، وعلم الآثار تحديداً، ذلك العلم الذي يوليه العدو الصهيوني أهمية بالغة، فيهدم كل ما له علاقة بتاريخ الأرض الفلسطينية، ويمحو كل أثر، في الوقت الذي يقيم فيه آثاراً زائفة، على الأرض وفي أدمغة العالم الغربي، وفي عالمنا الذي تغلغل فيه خطابه التوراتي، وهيمن على كل خطاباتنا القومية والدينية.. وكل ما يخطر بالبال من خطب ومقالات.

المساهمون