خوان خيلمان.. الحوار الأخير

خوان خيلمان.. الحوار الأخير

17 ابريل 2017
(خوان خيلمان 1930 - 2014)
+ الخط -

في كانون الأول/ ديسمبر 2013، وشهراً قبل رحيله، سمح لي خوان خيلمان بتسجيل شريط فيديو لإحدى محادثاتنا، ربما هي المقابلة الأخيرة التي أجراها الشاعر الأرجنتيني. تحدثنا عن المنفى والشعر، وعن المقاومة باعتبارها إبداعاً.

نشرت بعض كلماته في الشريط الخاص بي: "الأغنية الزرقاء"، المكرّس لذكرى أحمد شاملو (1925 - 2000)، الشاعر الإيراني الأهم في القرن الماضي، والذي اختار خوان أن يقرأ له قصيدة "بعث" في الصيغة الإسبانية لكلارا خانيس: "كنتُ جميع الموتى، موتى الطيور الذين يغنّون وهم صامتون، موتى أجمل حيوانات الأرض والماء".

كان خوان قد قام بدعوة مجموعة من الأصدقاء في كانون الثاني/ يناير للاحتفال بذكرى مرور 25 عاماً على وجوده في المكسيك، لكنه لم يستطع أن يصل إلى الموعد في ذلك اليوم بحسب الرغبة التي أعرب عنها في وصيته- نثرْنا رماده في سان ميغيل نيبانتلا، قرية سور خوانا، التي كان يعتبرها بداية الشعر في أميركا اللاتينية.

خوان خيلمان قرّر البقاء في أرض منفاه، رفاته يوجد في الهواء، والتراب، والماء والنار المكسيكيِّينَ. شِعْرُهُ وهو ذاته- ما يزال يعيش بيننا. شكرا لِمَارا وأندريا وإسبيرانثا على حسن ضيافتهن الكريمة.

                                                            محسن عمادي



1
بفضل مجموعة من الأصدقاء الذين كان أغلبهم يمارسون الكتابة. لأني كنت أكتب ولا شيء أكثر وأقرأ أشيائي وهم أيضا يقرأون أشياءهم. في يوم ما قال لي: خوان حان الوقت لكي تنجز كتابا من كل تلك القصائد. حسنا قمت بذلك فنُشِرَ الكتابُ. لكني كنت في سن السادسة والعشرين، ولأني حتى ذلك الحين لم أكن أصدّق نفسي. وبالإضافة إلى ذلك كانت أمي تقول لي: "خوان، لماذا كتابةُ الشعر؟ يجبُ أن يكون سلوكك جيِّدا، إنك لن تكسب من ذلك مالاً"، لكني أتذكر أني لمّا حملت لها نسخة من كتابي الأول حين نُشِرَ، تلقتْه بابتسامة واسعة مثل نهر، وقالت لي: "لماذا تنخرط في ذلك الفعل؟ أنتَ لن تكسب مالا" لكنها كانت تبتسمُ بعمقٍ.


2
هنالك صعوبات لأنني كنت أعيش في حيٍّ فقيرٍ ومن يكتبُ الشِّعْرَ كان يُشك في رجولته، أليس كذلك؟ والمرء كان يتشكك في ذاته، في النهاية، بالنسبة لحالتي كان الأمر هكذا. أعتقدُ أن أخي أثَّرَ فيَّ كثيراً، أذكرُ أن عمره كان خمس أو ستّ سنوات، وكنت أضايقه في كل حين: أنشِدْ لي أشعارَ بوشكين، كنتُ أقولُ له... كان اسمه بوريس، ولذلك وقعتُ باسْمِ "بوريس بوشكين".

في حالتي صادف أنَّ أخي الأكبرَ كان أوكرانيا لمَّا كنتُ أنا ما أزالُ صغيرا جدا وكان يُنْشِدُ لي قصائدَ بوشكين. لم أكن أفهمُ ولا كلمةً ولكنَّ موسيقى تلك القصائدِ، إيقاعَ تلك القصائدِ كانَ يأخذُني إلى عالمٍ آخرَ وأعتقدُ أنَّ ذلك أثَّرَ فيَّ كثيراً ثمَّ فيما بعدُ، في التعليم الابتدائي يبدأ المرءُ بالطبع قراءتَه لشعراء سيئين والذين كانوا هم ...

لكني بدأتُ أكتبُ في سِنِّ الثامنة والتاسعة وكان ذلك يفتِنُنِي كثيراً، ما ذلك؟ ما زلتُ بَعْدُ لا أعرفُ. في كتابِ اليوم، الذي حصلتُ عليه، هناك قول مزعوم لسيزيف: "لم يعرف ما هي تلك الصخرة". هي حاجة داخلية تنحلُّ بالكتابَةِ حتى بعدَ أن يعرفَ المرءُ أنه أبداً - أتحدَّثُ عن نفسي، وليس عن الآخرين - لن يصلَ إلى الأثر الكامل لِمَا يحسُّ بِهِ ولِمَا يراهُ وعلى الأخصِّ لِمَا يَسْمعُه، أليْس كذلك؟ ولكن مهلا، فنحن لا نملكُ زمامَ أمْرِنا.


3
عندما بدأتُ كتابة شعراءَ آخرين، كنتُ في أزمةٍ عاطفيةٍ شخصيةٍ. كانتِ الأمورُ في البلادِ تسيرُ بشكلٍ سيِّىءٍ للغاية، وذاك كان شيئا آخر. كانت تُهيمنُ الدكتاتورية العسكرية وأشياء أخرى.
حينها كنتُ أكتبُ أشعارا حميمية جدّاً. وآنئذ لكي أنفصِلَ وأستقلَّ عَنِ الذَّاتِ، فأنأ أومنُ بأن الحميمية تُشكِّلُ - بالطبع - جزءا من الذاتية، لكنها ليست الذاتية كلها قلتُ لنفسي: "خوان، حسنا، أنتَ لا يمكنُكَ أن تستمرَّ على هذه الحال"، ولذلك خلقت ثلاثة أو أربعة شعراء أتاحوا لي الابتعادَ عن ذاتي والنظرَ إلى اللغة من مكانٍ آخرَ حسب كل حالة.
الآن، الإنكليزي جون ويندل، الذي تمَّ نشرُه، كان قد سرق البوليس مني ما يقاربُ مائتي كتابٍ مماثلٍ أثناءَ اقتحامهم للبيت. ربما صاروا نقادا للأدب.


4
ذاك له علاقة مع اللغة. خلال تجربتي نُفِيتُ أولا إلى إيطاليا وفي لغة كل الإيطاليين بصدد المناطق، عدا الصقلية، لِنَقُلْ، إن اللغة المشتركة التي بها يتم التفاهم عموما، بَدَتْ لي جِدُّ... ضعيفةٍ، لِمَا كنتُ أشعرُ به: فقد كنتُ أشعرُ بكراهيةٍ تجاهَ المجلسِ العسكري، كنت أشعرُ بِغيْظٍ، وأشعرُ بِعَجْزٍ لأنني لا يمكنني أن أفعلَ شيئاً في المنفى سوى التنديد بالدكتاتورية العسكرية لكنْ لا شيء أكثر من ذلك، ولذلك لم أكتبْ لمُدَّةِ أربع سنواتٍ إلى أن تغلّبتُ على رفض تلك اللغة بعد أن تعلمتُ اللغة الرُّومانية، اللغة المحكية في روما والتي لها علاقة وثيقة باللونفاردو، لغة الأفاقيين بالأرجنتين التي يُتَحدَّثُ بها في بوينس آيرس. أعني الأشكال، والتركيب اللغوي، كل ذلك. لكن وحسب كل حالة دائما، كنتُ أشعرُ دائما (بعد أن كُنتُ منفيا في باريس) غرابة تلك اللغة في علاقتها بي وبغرابتي في علاقتي بتلك اللغة، ولكن، أوه، في ما يتعلق بديباشو، هذا ما حدث:
عندما كنتُ في المنفى، أعدتُ قراءة الصوفيين الإسبان: سانتا تيريزا، وسور خوانا، هذه مكسيكية وليست إسبانية، وسان خوان دي لا كروث... كنتُ قد قرأتهم ولكن في هذه الأثناء أدركتُ أننا كنا نتحدثُ عن الشيء ذاتِه، عن الخسران. بالنسبة لهم كان الله، وبالنسبة لي كانت الأرض، والكثير من الرفاق القتلى، وابني الذي اغتالته الدكتاتورية العسكرية.

حينئذ شعرتُ أن مفهوم الخسران الذي كنتُ أعبِّرُ عنه بطريقتي، إذا اجتزنا خمسة قرون، كنتُ أشعرُ أنَّ شعرهم جدَّ قريبٍ مني. ثم بعد ذلك دخلتُ أقاليم أخرى: القبالة، وشعراء التروبادور، وإلهية هولندا، ولكني في النهاية شعرتُ أنَّ هذا كان هو الموضوع. لكن من وجهة نظر اللغة كتبتُ كتابين، وأنا أتحدث إليهم. ومن زاوية نظر اللغة، ذاك التدخل في قشتالية القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، فتح لي عالما غير عادي، رائعا، ومليئا بالمفاجآت.

وذاك دفعني إلى الكتابة بالسفاردية. لأنني كلما توغلتُ أكثرَ وجدتُ أنَّ في تلك اللغة السابقة على تلك اللغة للقرن كذا... لنقل إنها الجزء الأكثر عزلة ومنفى، اليوم وجدتُ وضوحا، وبساطة، تركيبا جذبني كثيرا.

التصغيرات، حسنا، العديد من الأشياء جذبتني إليها كثيرا. لم أكتب أكثر من ثلاثين قصيدة، وكانت هذه التجربة مهمة بالنسبة لي. ولكنها كانت نتيجة لقراءتي اللغة الإسبانية للقرن السادس عشر وأدخلتني على نحو متزايد في الهوات السحيقة للغة، في سوابق اللغة.

وإذن، والشيء غير العادي أنني أعتقد أن هذا نفسه قد حدث مع اللغتين الفرنسية والإنجليزية. الشيء غيرُ العادي هو أن تصلَ خلال لحظةٍ ما إلى نقطةٍ يتمُّ فيها هجرُ العديد من الشوارع المفتوحة، لست أدري لماذا يتمُّ فتحُ أخرى... قد يكون ما يسمونه تطوير اللغة، ولكني وجدت أشياء، على سبيل المثال، عند كورتيس وجدتُ بعضَ التعبيراتِ والأشكالِ غيرَ عاديةٍ، ذلك أنه لا يتحدَّثُ مطلقا عن الشعرِ ولا يلامسُ الموضوع الشعري. كان الأسقف الأول لغواتيمالا في أوائل القرن السابع عشر رجلا يكتب ثلاث صفحات دون أن يضع نقطة واحدة، وهذا أيضا أذهلني.

في نهاية المطاف ما ولجته هو ماضي اللغة، هي لغتي... وهذا غريب أليس كذلك؟ لأني الآن إذ أفكر بذلك فإنني أعتقد بطريقة أو بأخرى أنه منحني مستقبلا، بمعنى أن لديك مثالا في غواتيمالا، وهناك لدى السكان الأصليين أو في جنوب المكسيك، لقد أمضى هناك السكان الأصليون أربعة أو خمسة قرون دون أن يتحدثوا اللغة القشتالية، رفضا للغزو وللغزاة، وثقافتُهم ثقافة قوية جدا، الذين تحدثوا بالقشتالية كانوا أيضا قليلين جدا وبالتحديد سمَّوْهُم اللادينيون [نسبة إلى اللادينو: أي لغة السفرديين].

والآن، مع موضوع الزاباتية، للقائد ماركوس، وهذه الانتفاضة كلها في الجنوب. لقد كنت هناك عندما قامت الانتفاضة. بعثتني الصحيفة كمراسل، وحينئذ كانت تظهرُ رسوماتٌ، وطرقٌ في التحدُّثِ حيث كان تركيبُ لغةِ السُّكانِ الأصليين يبدعُ أشكالا، ويفتح مجالاتٍ جديدةً، لستُ أدري، كان يمكنُ أن يتِمَّ إلحاقُها وتضميِنها وكل الأشياء الأخرى... اللغة لانهائية، إنها شيءٌ رائعٌ، غيرُ عادي، يمنحنا الحياة، يمنح الحياة.


5
أحيانا ليس الأمر كذلك، بالنسبة لي، أكثر من المنفى في ذاته، أنا الذي اضطررت إلى الرحيل لأنه كانت هناك ديكتاتورية عسكرية، وما آلمني أكثر هو فشل المشروع السياسي الذي مات من أجله كثير من الشباب. حينئذ، في الأرجنتين كان يتم الحديث عن ثلاثين ألفاً من المختفين المختطفين من قبل الدكتاتورية العسكرية، وهذا صحيح. لكن المختطَفَ الأكبرَ هو المشروعُ السياسيُّ الذي سعى إلى عدالة أكبر وحرية أكبر، وأخوة أكبر وهذا مؤلم جدا.


6
أنا أعتقد أن المرء يستطيع أن يقول إن الوطن الحقيقي هو الطفولة، الوحيدة، التي تُتَعلَّم فيها اللغة، واللغة التي تدخل من الخارج إلى الرضيع، الذي يوجد في المهد، وتخلق فكرةً لا تنغلق لحسن الحظ أبدا، وبعد ذلك الأسْرَةُ وكلُّ شيْءٍ، لكن في نهايةِ المطافِ الوطنُ الحقيقيُّ الوحيد هو اللغة. تلك هي الوطنُ الذي نلتقي فيه جميعا.


7

حسنا، أعتقد أن الشعر لمجرد كونه موجودا فذاك مقاومة ضدَّ عالمٍ رهيبٍ، هو هذا العالمُ الذي نعيشُ فيه الآن. وأفترضُ أن في التاريخ ثمة لحظاتٌ سوداءُ، ورمادية يمكن أن تستمرَّ لفترةٍ طويلة، لكن بطريقة أو بأخرى، فإن ذلك ينتهي إما لأن هناك أناسا ينهونه لأنه لا يمكن لأحد أن يجرّد الناس من قدرتهم على الحلم أو التمني. متى سيحدث ذلك في عصرنا لست أدري، أنا لن أرى ذلك.

لكنَّ تلك المقاومة التي تولدُ من الشِّعْرِ فقط لأنه موجودٌ لا تَعني أنه يجبُ كتابة قصائدَ... كيف أقولُ ذلك؟ قصائدُ الشِّعارات، أي جاهزة ومعروفة مسبقا، لأن القصيدة هي الشعر.

أذكر أنه بمناسبة الثورة الكوبية في جميع أنحاء القارة كُتِبَتْ الآلاف المؤلفة من القصائد في علاقة مع الثورة الكوبية، ولستُ أدري إن كان قد تبقى من كل ذلك عشر أو خمس عشرة قصيدة، ذلك أنَّ الشِّعرَ كلمة كلسية، وإذن فبإمكانك أن تتحدث عن كل شيء، لا يهُمُّ الموضوعُ، ما يهُمُّ هو الشعرُ، القصيدة، وهي الطريق الوحيد للتحدث عن كل ما تبقى، ليس فقط عن المقاومة السياسية، بل عمَّا يستطيعُه وليس عن ذلك فقط.

يمكن للمرء أن يكون في حالة حبٍّ وأن يكتب قصائدَ حُب لا قيمة لها، على الرغم من أن إحساسه جيِّدٌ وسليمٌ، منذ سافو وحتى وقتنا الراهن يجب أن تكون قد كُتبت ملايينُ القصائد، آلافُ الملايين من قصائدِ الحُب، ماذا تبقى؟ أليس كذلك؟ لأنه وكما قال عزرا باوند، كرونوس هو القاضي الوحيد. أؤمن بذلك.


8
يقرأ خوان خيلمان قصيدة "بعث" للشاعر الإيراني أحمد شاملو بترجمة الشاعرة الإسبانية كلارا خانيس:

قد كنتُ كلَّ الموتى؛
موتى الطيور التي تغني
وهي صامتة،
موتى أجمل حيوانات الأرض والماء،
موتى من كل البشر
الخيرين والأشرار.
وكنتُ هنالك
في الماضي
دونما أغنية،
دونما ابتسامة
أو حنين.
حُبُّك
جعلكِ ترينني
ليلا
في حلمكِ
فاستيقظتُ
بِجَنْبِكِ.

يا لها من قصيدة عظيمة وشاعر عظيم! غير عادي لأنه عند قراءة الشعر لدى كبار الشعراء يشعر المرء أنه يرحلُ إلى مكانٍ آخرَ، حينئذ يبدأ، أو في ذلك الحينِ يعرفُ إلى حَدٍّ ما سِحْرَ العالم، لأن الشعر يبعده عن هذا العالم، يا له من تناقض! وهو أمْرٌ يبعث على الأملِ حين يقرأ المرءُ يُحِسُّ أخيرا بالأمل. الشعر يأتي من أعماق القرون، يجتاز كلَّ الكوارثِ الطبيعية والحروبِ والجوعِ وكلَّ شيْءٍ، وهو ما يزال واقفا، يعني هذا أنه يعيدُ الأملَ بقوةٍ، يفتحُ حقولَ الأمل في ذاته. سينتهي الشعرُ عندما ينتهي العالم، وليس أبدا قبل ذلك.

* ترجمة عن الإسبانية خالد الريسوني

المساهمون