سينما جزائرية لم تستقل بعد

سينما جزائرية لم تستقل بعد

11 ابريل 2017
(مشهد من فيلم "تيمقاد" لـ فابريس بن شاوش)
+ الخط -

قبل عشر سنوات، جلس الجزائريون والفرنسيون على الطاولة لتوقيع اتفاقية شراكة سينمائية، ومع أن ذلك جرى تزامناً مع انطلاق احتفالية "الجزائر عاصمةً للثقافة العربية" عام 2007، فإن الخطوة لم تُثر استغراباً في المشهد الثقافي الجزائري المرتبط، إلى حدّ كبير، خصوصاً في شقّه السينمائي، بنظيره الفرنسي. حتى أن الاتفاقية المذكورة تبدو منسجمةً مع "اتفاقيات إيفيان" (1962) التي أعلنت وقف إطلاق النار وتقرير المصير الذي مهّد للاستقلال؛ حيث تنصّ المادّة 11 منها على "تفعيل المساعدة الفنية التي تقدّمها فرنسا للجزائر في ميدان الإذاعة والتلفزيون والسينما".

يومها، صرّح مدير "صندوق دعم الإبداع السينمائي "في وزارة الثقافة الجزائرية، آنذاك، لمين مرباح، أن أهمية الاتفاقية، تكمن في أن "الفيلم بإنتاجه المشترَك يكتسب جنسيّتَين، وتجعله يستفيد من كل الميزات والقوانين في البلدين".

في إطار تلك الاتفاقية، أُنجزت العشرات من الأفلام السينمائية بإنتاج مشترك. ولعلّ المشتَرك في كثير منها، إضافةً إلى احتوائها على نسبة من اللغة الفرنسية، حسب ما ينصّ عليه الاتفاق، هو معالجتها قضايا جزائرية وفق الرؤية الفرنسية/ الاستعمارية. آخر تلك الأفلام هو "تيمقاد" (2017) لمخرجه الفرنسي الجزائري، فابريس بن شاوش (1960).

يبدو الشريط، الذي قُدّم عرضه الأوّل في الجزائر العاصمة أخيراً، أقرب إلى عمل دعائي ضمن "البروباغندا الكولونيالية" للحكم الديغولي في الجزائر، والتي سنكتشف، خلال ساعة وأربعين دقيقة هي مدّة الفيلم، أنها لا تزال سارية المفعول بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال.

يصوّر بن شاوش الجزائريين القاطنين في منطقة تيمقاد الأثرية في محافظة باتنة شرقي الجزائر، حيثُ تدور أحداث الروائي الطويل، على أنهم جهلة وعنيفون ومتخلّفون. يحلّ عليهم جمال (الممثل المغربي منير مرقوم)، الباحث الأركيولوجي الفرنسي من أصول جزائرية، في صورة الرجل "المتحضّر" الذي سيُخرجهم من ظلمات تيمقاد إلى أنوار مرسيليا، فيستقبله مختار (الممثّل الجزائري سيد أحمد أقومي)، المدرّس الناقم على الوضع هناك، بسؤاله: "ما الذي جئت تفعله في هذا البلد البائس، في هذه الحفرة المنسية من الكون؟". مختار، الذي يُحدّث تلاميذه بالفرنسية أمام علَم جزائري محروس بهيكل عظمي، يعمل على أن يكوّن منهم فريقاً لكرة القدم ليسافر به إلى مارسيليا، هرباً من تلك "الحفرة المنسية"، بشوارعها المهجورة وسياراتها القديمة وأكواخها الطينية، من تلك الأرض التي كانت موطن حضارة رومانية في ما مضى، ثمّ انتهت إلى قطعان الماعز التي تصول وتجول في جنباتها.

احتقار الذات وتقديس الآخر ليسا حكراً على مختار. نسمع جميلة (الممثّلة المغربية مريم أخديو)، تصف الشاب الفرنسي الوسيم بأنه "لا يشبه الرجال الكلاب في القرية"، قبل أن نراها في مشهد آخر وهي تمسك رقبة دجاجة بعنف وتجزّها بسكّين.

يحشد المخرج في باكورته الروائية الطويلة صوراً نمطية كثيرة أخرى: البقّال الانتهازي الذي يبيع سلع الحكومة الفاسدة، الإمام الجاهل الذي يؤمن بالدجل، والأطفال الحفاة الذين يتحدّثون فرنسيةً طليقة، رغم منظرهم البائس.

في حديثه إلى "العربي الجديد"، يدافع لطفي بوشوشي، أحد منتجي العمل، عن هذه النوعية من الأفلام، بدعوى أنها تمنح مهنيّي السينما في الجزائر فرصةً للعمل". بوشوشي يتحدّث بمنطق عملي بحت. المنتج والمخرج الذي برز اسمه بفيلمه "البئر" (2016)، لا يبدو مهجوساً بالأسئلة والرؤى التي تبلورها السينما. هي بالنسبة إليه مجرّد "فرصة للعمل"، ليس إلّا.

أمّا "الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي"، وهي هيئة رسمية تابعة لوزارة الثقافة، وقد ساهمت بثلث ميزانية الفيلم، فقد التزمت الصمت. تأسّست "الوكالة" بالتزامن مع توقيع اتفاقية الإنتاج السينمائي المشترك في عهد وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي، وموّلت معظم الأفلام المنتجة بالشراكة بين البلدين.

حين يتعلّق الأمر بالإنتاج المشترك، تحضر أسماء مخرجين أغلبهم فرنسي الهوى وبعضهم فرنسي الهوية: مهدي شارف، ونذير مخناش، ومرزاق علواش، وعكاشة تويتة، وجميلة صحراوي، وبلقاسم حجّاج، وجمال بن صالح وجان بيار ليدو، وغيرهم من المخرجين الذين يكرّرون، في تصريحاتهم المختلفة، بأنهم يتبنّون مقاربات وفق "نظرة موضوعية" للماضي المشترك بين البلدين.

في 2007، لقي إلغاء عرض فيلم "دليس بالوما" لـ نذير مخناش، في الدقائق الأخيرة، اهتماماً إعلامياً كبيراً. حينها، برّرت وزارة الثقافة ذلك بعدم توفّر نسخة عربية من العمل. أمّا الحقيقة، فهي أن الوزارة وجدت نفسها أمام مفاجأة غير سارّة؛ فالفيلم الذي موّلته بميزانية كبيرة، يروي قصّة "قوّادة" اسمها "ألجيريا" (الممثّلة باية بوزار) تدير شبكة للدعارة في فرنسا، وتظهر بلباس يحمل ألوان العلم الجزائري. التجربة ذاتها كرّرها المخرج والممثّل في فيلم "حرم السيدة عصمان" (2000)، وهو من إنتاج فرنسي إسباني.

إنتاج مشترك آخر وقّعه المخرج المغترب، مهدي شارف، بعنوان "كارتوش غولواز" (2008)، تضمّن مشاهد اعتُبرت مسيئة؛ مثل السخرية من المساجد وإظهار محاربي الثورة التحريرية بالزي الأفغاني وتسميتهم بـ "الفلّاقة" (العبارة التي أطلقها المستعمر على المحاربين الجزائريين)، إضافةً إلى التعاطف غير المبرّر، درامياً، مع اليهود والحَرْكة (الجزائريون الذين تعاونوا مع الاستعمار). في هذا الفيلم، اكتفى شارف بدور الشاهد ولم يتبنّ موقفاً من الأحداث كما لو أنه ينتمي إلى طرف ثالث. وفي أحد حواراته، راح يدافع عن مقارباته بمبرر غريب: "قدّمت قراءة سينمائية، لا غير، لما عايشته في الخمسينيات والستينيات. لم أقصد إهانة الجزائر، وطرح العلم على الأرض في آخر مشاهد الفيلم يرمز إلى مدى التعلّق بالأرض والجذور!". وكالعادة، لاذت وزارة الثقافة التي موّلت العمل بـ 1.8 مليون يورو، بالصمت.

وفي فيلمها "بركات"، تبنّت المخرجة المغتربة، جميلة صحراوي، المقاربة الفرنسية لموضوع "العشرية السوداء". فالعمل الذي كتب له السيناريو الفرنسي، سيسيل فير غافتي، استند إلى أطروحة "من يقتل من؟" الفرنسية، وحمّل مناضلي الثورة الجزائرية مسؤولية فشل مشروع المجتمع الجديد.

أمّا المخرج الفرنسي المولود في الجزائر، جان بيار ليدو، فأنجز عام 2007 وثائقياً بعنوان " الجزائر: تاريخ لا يقال" تضمّن مغالطات تاريخية كثيرة؛ حيث عمد فيه إلى تبرئة ساحة فرنسا من جرائمها ضد الشعب الجزائري وتشويه صورة الثورة الجزائرية بسرده شهادات قدّمها "شهود عيان" سرعان ما تراجعوا عن تصريحاتهم. حمّل ليدو الثورة مسؤولية ما أسماها العدائية، مسوّقاً لطرح مفاده، أن قادتها أعطوا أوامر لتصفية المدنيين الأوروبيين وشجّعوا وضع القنابل في الأماكن العمومية ذات الأغلبية الأوروبية. وزارة الثقافة، التي قامت بتمويل الفيلم بسخاء، اكتفت بمنعه من العرض في الجزائر، بينما عُرض في بلدان أخرى.

قبل سنتَين، عُرض فيلم بعنوان "كان يا ما كان في الواد" للمخرج جمال بن صالح، وهو ابن شقيق عبدالقادر بن صالح، رئيس "مجلس الأمّة" (إحدى غرفتَي البرلمان الجزائري)، وكان لافتاً أن العمل الذي خصّص له منتجه الفرنسي ميزانية تجاوزت مليونَي أورو نال دعماً سخياً، هو الآخر، من وزارة الثقافة والتلفزيون الحكومي، كما ساهمت فيه "وزارة المجاهدين" و"الأمن الوطني" الذي خصّص له طائرَتين عموديتين مع تقنييهما، كما تكفّلت الدولة بإقامة كامل فريقه الفرنسي لمدّة شهر في واحد من أبرز فنادق الجزائر، إضافة إلى التكفّل بمصاريف ثمانين صحافياً فرنسياً حضروا لتغطية العرض الشرفي في الجزائر، والذي لم يُدعَ إليه أي صحافي جزائري.

المساهمون