"دينامية القيم": في الانتباه إلى عصر جديد

"دينامية القيم": في الانتباه إلى عصر جديد

02 ابريل 2017
منى حاطوم/ فلسطين
+ الخط -

لا شكّ أن السنوات الأخيرة بتسارع أحداثها السياسية والاجتماعية في المنطقة العربية قد خلفت آثارها العميقة على مستوى البنى الفوقية. وإذا كانت التغيّرات الأولى بارزة ويمكن متابعتها، فإن الثانية ضمنية وخفية تحتاج إلى مقاربات ومفاهيم تواكب هذه التغيّرات وتكشفها وربما تساهم في توجيهها.

ضمن الدورة 33 من "معرض تونس الدولي للكتاب"، الذي تختتم فعالياته مساء اليوم، أقيمت الخميس الماضي، ندوة بعنوان "دينامية القيم: الصدمات والتحوّلات"، تكريماً للمفكّر التونسي فتحي التريكي، الذي كان حاضراً صحبة علي حرب، من لبنان، فيما تغيّب كل من السوسيولوجي التونسي طاهر لبيب والباحثة سمية المستيري.

عن سؤال وضع القيم اليوم، اعتبر حرب أنها "في تراجع". يضرب مثالاً أولاً بمفهوم "المواطنة" والذي برأيه، أصبح "في خبر كان"، مع "عودة نموذج المؤمن على حساب نموذج المواطن"، ويستدلّ ثانياً بـ"العقلانية" التي جُرفت مع عودة أكثر من عامل مهدّد لها كـ"عودة الدين عودة إرهابية" و"عودة الاستعمار بأكثر من شكل".

يلاحظ المفكر اللبناني أن العقلانية أيضاً تتراجع في الغرب، والدليل تقدّمه فرنسا اليوم عبر حملاتها الانتخابية، حيث يبدو كل الخطاب السياسي (اليميني أو اليساري) وقد تجاوزته انتظارات الشعب، وغير قادر على تقديم حلول للمعضلات الاقتصادية والأمنية والقِيَمية.

بالعودة إلى السياق العربي، يعتبر حرب أن المشتغلين على الثقافة يمارسون وصاية على قيم أساسية مثل الحرية والعدالة وغيرها. من خلال هذه الفكرة، يربط حديثه بمنجزه الفكري، حيث يشير إلى أنه اشتغل على نقد كل من تعاملوا مع الأفكار كحقائق مطلقة ومتعالية فانقلبت إلى ضدّها. يقول "منطق القبض على الحقيقة وصل إلى طريق مسدود". كما أكّد على أن "الأفكار التي ينتجها الفلاسفة تحتاج إلى ساسة مبدعين".

يرى حرب أن تونس وهي تمر بمرحلة انتقال سياسي يمكنها أن تستفيد من جميع التجارب، سواء الناجحة أو الفاشلة، ولكن "عليها أن تتعامل مع هذه التجارب من موقع تفكير"، ليدعو إلى "ضرورة تغيير العدّة الفكرية" في وضعية "ينمو فيها المجتمع مع انفتاح المعرفة" ما يطلق عليه تسمية "المجتمع الشبكة الورشة" والذي تصبح ضمنه القيم "صناعة مشتركة بين كل الفاعلين، باعتبار أن كل نقطة من الشبكة تكون مؤثرة".

ضمن نفس سياق تفسير أسباب تغيّر القيم وتسارع تحوّلاتها، تحدّث المفكّر التونسي فتحي التريكي معتبراً أن "العقل ظل يعيش لعقود عملية نقديّة هائلة انعكست على القيم".

يلاحظ صاحب كتاب "الفلسفة الشريدة" أنه "ينبغي الأخذ في الاعتبار تفاوت نسق تغيّر القيم من جهة والعوامل الاجتماعية من أخرى، باعتبار أن الأولى تتّصف بالسكونية ظاهراً، فيما تتأثر الثانية بشكل مباشر بالمستجدات الاقتصادية والتقنية والسياسية وغيرها، الأمر الذي يفرز صدمات قوية، بين قيم ساكنة لدى الفرد وفضاء عام متحرّك فيدخل الجميع في صراع".

وحول ملاحظة علي حرب بأنه لم يعد ممكناً التفكير إلا من خلال "عدّة فكرية جديدة"، يشير التريكي إلى أن الوعي العربي لم يلتفت بعد إلى أننا لم نعد في ما سُمّي بـ"عصر العولمة"، إذ نعيش نمطاً جديداً، يقول عنه "يمكن تسميته مبدئياً بـ"ما بعد العولمة"، وهذا يعني أن العولمة في شكلها الماضي انتهت ولكنها لم تمت تماماً".

يعتبر التريكي أن القول بأن العالم قرية لم يعد ممكناً في ظل عودة تعدّد المراكز على عكس ما جرى التنظير له في نهاية القرن العشرين، وكذلك عادت فكرة الحدود من جديد، كما مع "البريكسيت"، ومعها بدأ إجبار الشركات على المكوث في بلدانها عكس فكرة الشركات متعدّدة الجنسيات التي كانت تعتبر أن العالم على ذمّتها.

يرى التريكي أن ثمة مبدأين أساسيّين يحكمان هذا العصر الجديد؛ الأول جرت وراثته من العولمة وهو مبدأ الربحية، والثاني مستحدث وهو مبدأ "ما بعد الحقيقة". يشرح المفكر التونسي هذا المفهوم من خلال أمثلة، من بينها المواد الإشهارية التي تطرح خطاباً حول البضائع وكأنه هو الحقيقة بالذات، غير أنه ليس سوى حقيقة ممكنة جرى إخراجها وتزويقها، ومع تطوّر صناعة الإشهار ونسق تسارع تداوله أصبحت "الحقيقة المطروحة" تفرض نفسها على بقية الحقائق، وبالتالي لم يعد ممكناً الحديث عن حقيقة فوجب الانتقال إلى مفهوم جديد.

المثال الثاني الذي يضربه التريكي هو "الإشاعة"، والتي وجدت - مع التطوّر التكنولوجي الهائل وغياب وسيط فاحص - فضاءات موسّعة للانتشار، وهو وضع يُفضي إلى "إنتاج حقيقة ولو كانت مزيّفة".

يرى التريكي أن السياسي اليوم بات يعتمد على "ما بعد الحقيقة"، ومثال ذلك الأبرز هو صعود الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، ومن ورائه تيار جارف من "الشعبوية السياسية". بالنسبة لصاحب "فلسفة الحياة اليومية"، استعمل ترامب نموذج "الحقيقة المزيفة" وأحسن توظيفها للوصول لموقعه.

بحسب التريكي، يزيح هذا الوضع التفكير من الساحة العامة ويعزله، كما ينتج في الأثناء "سفسطائيين جدداً" دورهم تمرير "الحقائق المزعومة"، مشيراً إلى أن المَخرج هو تغذية الفضاء العمومي بمبادئ فكرية مضادّة ونقدية.

دلالات

المساهمون