مؤتمر العلوم الإنسانية: اختتام بأسئلة مفتوحة

مؤتمر العلوم الإنسانية: اختتام بأسئلة مفتوحة

21 مارس 2017
(عمل لـ صباح الأربيلي، الدوحة)
+ الخط -

من 18 إلى 20 آذار /مارس الجاري، عقد "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" مؤتمره السنوي السادس للعلوم الاجتماعية والإنسانية، في مقر "معهد الدوحة للدراسات العليا"، والذي انشغل هذا العام بمحورين متوازيين هما "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية"، و"الشباب العربي: الهجرة والمستقبل".

توزّعت هذه المحاور بين محاضرات عامة وجلسات متتالية متوازية تقدّم فيها أوراق الباحثين، التي وصلت هذه السنة إلى حوالي 58 ورقة بالإضافة إلى أربع محاضرات عامة، اثنتان في كل محور.

استهل المؤتمر أشغاله بمحاضرتين افتتاحيّتين لمحور "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية"، قدّمهما كل من فهمي جدعان بعنوان "مركّب أخلاقي حديث للاجتماع العربي"، وجورج زيناتي بعنوان "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية وبعض قضاياه في عصر العولمة".

ذهب جدعان في كلمته إلى القول إنه إلى عهد غير بعيد، لم تكن مقاربة السؤال الأخلاقي ممكنة بدون العودة إلى الإغريق ومنظوراتهم التي تحتل فيها السعادة مكانة مركزية بما هي الخير الأسمى والفضيلة الحقيقية. ويضيف بأن هذه الأفهام عبرت الفضاءات اللاتينية وعصر النهضة وصولاً إلى الفلسفات الحديثة التي تسيّدت فيها أخلاق المنفعة والعقل والواجب والمتعة والخير العام.

أما في الإسلام، فيرى أنه ومنذ البدايات الأولى كان هناك اختلاف حول المتمثل الأساسي للأخلاق، فجعله المتصوّفة في الزهد وتهذيب النفس، في حين اختزله المعتزلة في مبدأ العدل، وذهب الفقهاء كالغزالي وابن الجوزي إلى جعله متأسّساً على "شُعب الإيمان" المقرونة بالعقائد الدينية والوضع الشرعي، وهو ما لم يتخلّص منه الفكر العربي المعاصر في تناوله للمسألة الأخلاقية إلى اليوم.

من جهته أكد زيناتي، على أن التفكير حول الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية كان بارزاً منذ القرنين الثالث والرابع الهجري، خصوصاً مع مسكويه في "تهذيب الأخلاق" و "آراء المدينة الفاضلة" للفارابي، والتي غالباً ما ركزت على الأخلاق السياسية بالأساس، فجعل مسكويه مصدرها في الدين، في حين قال الفارابي بالصلاح والعدل.

في الأندلس، ذهب ابن باجه في أطروحته حول "الإنسان الاستثنائي" إلى القول بأن ما يناقضه هو الإنسان الخسيس، وأن هذا التمييز الأخلاقي بين الاثنين يتحدّد بركيزتين: الأولى هي الفضائل والثانية هي العقل.

في السياق المعاصر يقول زيناتي بأن مرحلة الثورة الصناعية في الغرب لم تكن مسيّرة بوازع أخلاقي، وكانت أنانية الإنسان الحداثي المحرّك الرئيس لها، غير أن العولمة في ما بعد ستجعل الغرب محتاجاً للتخلي عن أنانيته لأهداف نفعية بالأساس إذ لا أحد يمكنه أن ينجو بنفسه اليوم، في عالم يسيطر عليه الخوف والشعبوية والتلوّث البيئي والذكاء الاصطناعي. وهو ما يستدعي الخروج من الأنانية الفردية نحو تآلف معولم محكوم بالأخلاق التي يجب أن يكون محورها العدالة والتكافل والعقل والتسامح والأمل.

تقسّمت بعد ذلك الجلسات، وعلى مدى ثلاثة أيام، في محور "السؤال الأخلاقي" إلى عشر. تناولت الأولى موضوع "الأخلاق الإسلامية وأسئلة الحداثة". وشارك فيها محمد بوهلال بورقة "الأخلاق في الحداثة من النطاق الثانوي إلى النطاق المركزي: بين هابرماس وحلاق"، تبعه محمد أوريا بورقة "الإيبستمولوجي والأيديولوجي في الفكر الأخلاقي عند طه عبد الرحمن: الأخلاق الإسلامية في مواجهة التطبيق الغربي للحداثة"، وتلاهما عبد القادر ملوك بمساهمة معنونة بـ "القيم الأخلاقية في ميزان العصر: طه عبد الرحمن في مواجهة موضوعية هيلاري بتنام وكونية يورغن هابرماس".

تركزت هذه الجلسة على السياق المقارن بين المجالين التداوليين العربي والغربي المعاصرين. وطرحت نقاشاً حاداً خصوصاً في مركزية الدين، وحصر الأخلاق فيه كما عرض لذلك في فكر طه عبد الرحمن.

أما الجلسة الثانية، فقد حاولت الخروج من الفكر الفلسفي المحض نحو الأخلاق التطبيقية، وكانت بعنوان "الجينوم وسؤال الأخلاق من منظور إسلامي"، شارك فيها وليد قرنفلة بورقة "الإنجاز الهائل والممكنات العلمية: التعريف بالجينوم وتقنياته"، ثم معتز الخطيب بمداخلة "نحو مقاربة منهجية لسؤال الجينوم: المفاهيم الكبرى"، واختتمت الجلسة بورقة محمد غالي بعنوان "إدارة الانفجار المعلوماتي الجينومي من منظور أخلاقي إسلامي: النتائج العرضية". وحاولت هذه الجلسة التطرّق إلى الإشكاليات الأخلاقية التي يطرحها التطوّر العلمي والطبّي بشكل خاص في السياق الإسلامي.

عادت الجلسة الثالثة إلى سؤال الأخلاق في الفلسفة الإسلامية، وركزت فيها أوراق كل من رمضان منصور وكمال امساعد على موروث ابن رشد في هذا الصدد، في حين ذهب مولاي عبد الكريم إلى الحفر في أخلاق التعقل في فلسفة الفارابي وراهنيتها في الفكر الفلسفي العربي المعاصر.

أما الجلسة التي تلتها فاهتمت بشكل محدد بالمدوّنات الفقهية والصوفية ومنزلة الأخلاق فيها بتدخلات لكل من حمادي ذويب والقادري بوتشيش الذي توسّع في تجربة التصوّف الأخلاقي المغربي.

في حين تناولت جلسات اليوم الثاني الواقع العربي الراهن وما يثيره من إشكالات أخلاقية، وقدّمت الجلسة الأولى أوراقاً لـ علي مول وشاكر الحوكي ومحمد أوالطاهر والتي تناولت مفهوم المواطنة، ودراسة الأخلاق من منظور هابرماسي في تونس ما بعد الثورة، والحاجة إلى الأنسنة لتجاوز ثنائية العقل والإيمان كمحددين أخلاقيين.

ركّزت الجلسة التي تلتها على روافد الموروث الأخلاقي في الجوار العربي، بحيث تصدّت ورقتا امحمد جبرون ورضوان رشدي على الرافد الفارسي، فيما عاد محمد أبو هدور إلى مسألة ولاية الحاكم المتغلب بين حجية المعيار الأخلاقي وشرعية الأمر الواقع.

وبحثت الجلسات الموالية أسئلة الشرعية والرحمة والتقوى باعتبارها أساسات الأخلاق الإسلامية، عقد فيها محمد حبش مقارنة بين النظام الأخلاقي الإسلامي والقيم الديمقراطية الغربية، وحاول عبد الرحمن حللي البحث عن المداخل التأسيسية لمفهوم التقوى في القرآن باعتباره المحدّد الأخلاقي الأسمى، في حين ذهبت شفيقة وعيل إلى التطرّق للامتداد الأخلاقي لأنطولوجيا الرحمة قرآنياً.

في اليوم الثالث والأخير من المؤتمر، جرت العودة إلى السجالات التاريخية خصوصاً بين المعتزلة والأشاعرة، في أوراق لرجا بهلول وناجية الوريمي، وركّزت الجلسة الختامية على الواقع العربي الراهن وما يثيره من أسئلة أخلاقية، ليقدّم عبد العزيز لبيب ورقة بعنوان "سؤال العصر في الأخلاق ومفارقاته مع السياسة"، تلاه أحمد مفلح بـ "دلالة سؤال الأخلاق في الفكر العربي المعاصر: تحليل محتوى مجلة المعرفة السورية أنموذجاً".

في ورقته التي حملت عنوان "القانون الأخلاقي والأمر الإلهي: قراءة جديدة في الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة"، تناول الباحث رجاء بهلول الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة حول مسائل الأخلاق والواجب والشرع الإلهي.

يوضّح البحث أنّ الخوض في تفاصيل هذا الخلاف يرينا على نحوٍ لا يترك مجالاً للشك أنّ نقاشات هؤلاء الأسلاف ليست أمراً منقطع الصلة عمّا يتمّ تداوله في الوقت الحاضر وفي سياق الفكر العالمي؛ من آراء حول العلاقة بين الأخلاق والقانون، وعن مدى لزوم احتكام القانون إلى معايير الأخلاق.

أما الباحث شفيق اكريكر، في ورقته "إتيقا الحياة الدنيا الطيبة عند الرازي: صيغة مبكرة للاستقلالية الأخلاقية ولفصل الأخلاق عن الدين"، فيوضح أنّ فصل الأخلاق عن الدين، لا يحظى في السياق العربي بما يحظى به فصل السياسة عن الدين من راهنية واهتمام، على الرغم من أنّ "الفصليْن" يصدران معًا عن مبدأ واحد هو الاستقلالية.

وبيّن أنّ الرازي يجرّد الفعل الأخلاقي من أهمّ خصيصتين دينيتين: الرجاء الأخروي، ثمّ الآمر أو المشرع الخارجي. وبدلاً من قيم الأخلاقيات الدينية، بنى الرازي إتيقاه على قيمتين عدّهما خيّرتين في ذاتيهما وساميتين عند كل إنسان بما هو إنسان، هما: حاكمية العقل ومرغوبية اللذة.

وفي آخر جلسات محور "سؤال الأخلاق"، تناول الباحث نديم منصوري في ورقته المعنونة "سؤال الأخلاق في الواقع العربي الراهن: أسئلة السياسة والفكر وأخلاق المجتمع الشبكي"، الأبعاد الأخلاقية في مجتمع الشبكة في المجال العربي.

حاول منصوري الإجابة عن السؤال الأخلاقي المرتبط بمجتمع الشبكة، فضلاً عن مناقشة الإشكالية الأخلاقية التي يفرضها هذا المجتمع من جهة السيطرة على الشعوب الأخرى، والسعي لفهم الأبعاد الأخلاقية التي تحكمه. وهو يرى أن مجتمع الشبكة هو مجتمع تسلّطي، لا حيادي، وأنه كمجتمع استهلاكي، وأنّه متسبب بانهيار منظومة القيم، إلى جانب مساعي المسيطرين على مجتمع الشبكة في صياغة مجتمع موحّد خاضع لتوجيهات عالمية.

النقاشات التي تلت الأوراق لم تقل عنها قدرة في إثارة الإشكاليات التي يطرحها "سؤال الأخلاق"، ليختتم المؤتمر بأسئلة مفتوحة انطلقت من الثقافة العربية الإسلامية كمرجعية للسؤال الأخلاقي وتشعبه اليوم، في ظل المتغيرات والمنعطفات الحادة التي يشهدها العالم ولا سيما التي تعيشها المجتمعات العربية.

المساهمون