جذور التهافت اليومي على "نقد" الإسلام

جذور التهافت اليومي على "نقد" الإسلام

21 فبراير 2017
(عمل لـ أرنو لابيار في باريس)
+ الخط -

إن المتتبّع للكتابات "النقدية" تجاه الإسلام، والتي تفتح لها دور النشر الغربية أبوابها على مصراعيها، سيجد أنها تتفق في الأغلب الأعم على أمر أساسي. إن مشكلة الإسلام تكمن في أنه لم يمر من مرحلة التنوير. ويمكن أن نجمل مفهوم التنوير في ثلاثة مفاهيم أساسية، هي العقلانية والحرية والموقف التاريخي.

إذن، بالنسبة لهذه الكتابات، فإن الإسلام لم يتحوّل، شأن المسيحية، إلى دين عقلاني. إن الإسلام يقف ضد حرية الفرد وتحرّره، وإن الإسلام تعدمه الرؤية التاريخية، أو لم نشهد داخل الإسلام قراءة تاريخيةـ نقدية لنصوصه المؤسسة، تحرّره من بنائه الدوغمائي.

لن نعمد إلى ربط العداء الحالي للإسلام بسياسات ظرفية، سبق ونظرت إليه من قبل كحليف استراتيجي في صراعها مع التوتاليتارية الشيوعية، لأن ذلك لن يكفي لفهم كل هذا التهافت شبه اليومي على "نقد" الإسلام في وسائل الإعلام الغربية. علينا في المقابل القيام بجولة في تاريخ الأفكار الحديث، وتحديداً تسليط الضوء على موقف الفلاسفة الغربيين الذين أسسوا للتنوير والحداثة من اليهودية، لأن الإسلام يلعب اليوم في السياق الغربي الدور الذي كانت تلعبه اليهودية بالأمس.

نقف عند مقارنة كتابات فلاسفة التنوير والمثالية الألمانية بالكتابات المعاصرة المنتقدة للإسلام على أوجه شبه كبيرة، لا تتعلق فقط بمضمون النقد، ولكن أيضاً بلغته ومفاهيمه، كما لو أن الأمر لا يتعلق في النهاية بالعداء لدين معيّن، ولكن لكل ما يمثل آخر العقل، وباختصار: للآخر.

إنه عداء يجد أصله في الصراع بين كليانية العقل والوحي الإلهي الذي يستعصي على الاختزال. إن العقلانية تعبير عن الأوتونوميا التي أسّس لها عقل الأنوار. إنه مفهوم يشير إلى بُعدين مركزيين: النسق المنطقي ـ العقلاني من جهة، والحقبة التاريخية التي تمتد من الأنوار وحتى عصرنا الراهن، أو ما يصطلح عليه بالحداثة.

قدّم اللاهوتي الألماني ماركوس كنير أحد أهم الدراسات في ما يتعلق بالعداء لليهودية داخل العقلانية الغربية، وركز في كتابه "الأثر المظلم في التفكير: العقلانية والعداء لليهودية" على مرحلة الأنوار والمثالية الألمانية. وهو يفتتح كتابه، بسؤال، قد نطرحه أيضاً في سياق حديثنا عن العداء "العقلاني" للإسلام أيضاً: "إلى أي حد تعتبر الغيرية أساساً للعداء لليهودية داخل العقلانية الحديثة؟".

أما اختياره للفلاسفة في هذا الكتاب، فينطلق من العلاقة التي أقامها الفيلسوف إمانويل ليفيناس بين سبينوزا وهيغل والعداء العقلاني لليهودية، فسبينوزا يقف في بداية الطريق الذي انطلق منه الربوبيون الإنكليز مثل ماتيو تندال وتوماس مورغان، وصولاً إلى فولتير. وانطلاقاً من هيغل سيتم تحليل موقف كل من لودفيغ فويرباخ وبرونو باور وكارل ماركس من اليهودية.

يرى كنير أن القول بأن العداء العقلاني لليهودية لا يمثل أكثر من نسخة علمانية عن العداء المسيحي لليهودي، يوضّح القرب البنيوي بين شكلين للعداء لليهودية، لكنه لا ينتبه إلى الانتقال من السياق اللاهوتي إلى السياق الفلسفي والنتائج المترتبة عن ذلك. إنه يتحدّث عن أربع حقب تاريخية للعداء لليهودية، تتمثل الحقبة الأولى في المرحلة الوثنية السابقة على المسيحية والتي اتخذ فيها العداء لليهودية شكلاً إثنياً.

أما الحقبة المسيحية فستعمد إلى تبرير عداءها لليهودية على أساس لاهوتي، في حين ستؤسّس حقبة التنوير لرفضها لليهودية على أساس نسقي ـ عقلاني، ثم سيأخذ ذلك العداء طابعاً عرقياً. لكنه يؤكد منذ البداية أن هناك تداخلات بين أشكال العداء هذه، بحيث لا نعدم أن نجد أثراً للعداء اللاهوتي لليهودية لدى فلاسفة ينتمون إلى حقبة التنوير مثلاً.

وفي هذا السياق أيضاً يفرق كنير بين العداء للسامية والعداء لليهودية، فإذا كان شكل العداء الأول Antisemitismus هو عداء لليهودية كعرق، فإن العداء لليهودية Antijudaismus تعبير عن العداء لليهودية كدين. ويكمن الاختلاف الأساسي بين الاثنين في أن العداء للسامية يهدف إلى التدمير الكامل لليهود، في حين يطلب الآخر تبشيرهم بقيم الأنوار، و"تحريرهم"، وإلحاقهم بنظام الأنا.

يقدّم الكتاب لمحة عن أهم الكتابات التي تعرّضت للعداء داخل العقلانية الحديثة لليهودية. وفي هذا السياق يشير الباحث إلى اتجاهين أساسيين في دراسة هذه الظاهرة، الاتجاه التاريخي والاتجاه الذي يعتمد التحليل النفسي والفلسفي.

ومن الباحثين الذين سيتعرّض إلى أعمالهم في هذا السياق ناتان روتنسترايش، الذي اشتغل على موقف كل من كانط وهيغل وتوينبي. يوضّح الباحث الإنكليزي اختلاف العداء لليهودية لدى الفلاسفة عن العداء العنصري للسامية. لكنه يرى أن عداء الفلاسفة لليهودية يضرب بجذوره في العداء المسيحي لهذا الدين.

بالنسبة لروتنسترايش فإن الأديان التاريخية شكلت بالنسبة إلى كانط تمظهرات لإمكانيات نظرية وليس وقائع بحمولاتها الخاصة بها، وبسبب هذا الضعف المنهجي، سيتبنّى كانط الموقف الذي يرى في أن اليهودية تنافح عن اعتقاد، يشرعن لارتباط الجوهر الإنساني بقانون خارج عنه.

وهكذا ستمثل اليهودية بالنسبة إلى كانط مثالاً متطرفاً عن أخلاق الخضوع والتبعية ولدين يقوم على قانون خارجي، لا يأخذ بعين الاعتبار الحوافز والمقاصد الإنسانية، وهو ما يتناقض مع المذهب الأخلاقي الكانطي الذي يقوم على حرية الإرادة.

أما هيغل، فهو يتبنّى من جهته الموقف المسيحي أيضاً، معتبراً أن اليهودية سابقة على المسيحية وأن المسيحية هي تعبير عن الدين الناضج، القمين وحده بتحقيق الانتقال من الدين إلى الفلسفة، أو من المحسوس إلى الأفكار الروحية.

وفي خلفية هذه الرؤية تكمن الفكرة التقليدية التي ترى أن اليهودية تخلق هوة عميقة بين الإله والإنسان، في حين أن المنطق الفلسفي يرى أن تاريخ العالم يطلب تجاوز الاختلاف بين الذات والموضوع.

أما توينبي فيرى أن اليهودية تقف، بسبب حقيقتها المطلقة، ضد نسبية الرؤية المقارنة، وبالتالي ضد التسامح. أما بالنسبة لأرثور هيرتسبيرغ في كتابه "التنوير الفرنسي واليهود"، فإن سبينوزا هو الذي يقف خلف عداء التنوير لليهود، فإليه يرجع التنويريون، رغم أن أطروحاته حول نقد العهد القديم ليست بالجديدة.

أقحم سبينوزا ومن بعده بايل معايير عقلانية في نقده، ويدين له الربوبيون الإنمليز والتنوير الفرنسي ممثلاً في فولتير في نقدهم لليهودية. إذ بالنسبة لفولتير، فإن اليهود لا يمكن إدماجهم في الثقافة الأوروبية، وكذلك اعتقد كل من هولباخ وديدرو، إن فولتير يمثل بالنسبة لهرتسبيرغ تحوّلاً براديمياً في العداء لليهودية، إذ سيأخذ هذا العداء من هنا فصاعداً طابعاً ثقافياً أكثر منه دينياً.

أما بالنسبة للمؤرخ ياكوب كاتس قي كتابه "من الحكم المسبق إلى التدمير"، فإن فولتير سيظل في نقده لليهودية متأثراً أو مرتبطاً عاطفياً بالمسيحية، وكذلك شأن كل من كانط وهيغل وشوبنهاور.

وبخصوص الدراسات النفسية والفلسفية المعاصرة، يسوق ماركوس كنير كتابات كل من فرويد وسارتر وأدورنو وهوركهايمر. بالنسبة لفرويد فإن العداء للسامية هو ردة فعل "عقلانية" على حدث ديني ـ تاريخي. إن المسيحية تتهم اليهودية بقتل الإله ـ الأب، وما نتج عن ذلك من عداء بين الشعوب. أما بالنسبة لسارتر، فإن العداء للسامية موقف مانوي، يرى في اليهودية العقبة الوحيدة أمام تحقق الخير، في حين يرجع أدورنو وهوركهايمر في "جدل التنوير" العداء للسامية إلى البنية التوتاليتارية للتنوير التي تؤسّس لخوف راديكالي من كل شيء "خارجي". وسواء تعلق الأمر بالعداء للسامية أم بالليبرالية، فالهدف واحد: تدمير اليهودي أو صهره.

إن كل هذه الدراسات التاريخية منها والفلسفية التي تعرّضت إلى موقف العقلانية الغربية من اليهودية، تؤكد أمراً أساسياً، استحالة القبول بالتعدّد والاختلاف داخل هذه العقلانية. فحتى في صيغتها الليبرالية، لن تطلب العقلانية سوى صهر الآخر بدعوى تحريره، وستطلق العقلانية اليوم الأوصاف نفسها على الإسلام، معتبرة الشريعة مثلاً تعبيراً عن استلاب الإنسان المسلم، كما اعتبرت القانون اليهودي كذلك من قبل. إن تنوير الإسلام لن يعني في هذا السياق شيئاً آخر سوى صهره وإلحاقه بنظام الأنا.

دلالات

المساهمون