الشريحة الأعظم

الشريحة الأعظم

11 فبراير 2017
("شخص يرمي عصفوراً بحجر"، خوان ميرو)
+ الخط -

حين تركب المترو أو القطار، لا يخلو الأمر من مصادفة أحدِهم وهو نائم أو متناوم (مجرد إطباق الجفنين للاسترخاء). ولسوف تلاحظ وجوه النائمين من حولك، بنومهم المتقطّع أو المستغرِق، فيُخيّل إليك أن البشرية كلّها لم تذق طعم تلك الفاكهة يوماً (الفاكهة التي تواطأت قواميسُ العالم على إعطائها ذلك اللقب المُدوّي: "السعادة"!).

أحياناً يروقني "الفرّو كاريل" ـ قطار الأنفاق الكتالاني ـ فأركبه من ساحة كتالونيا إلى مدينة سباديل. أقطع كل تلك المسافة، عابراً عشرات القرى البديعة ومئات الجبال المخضوضرة، لأرى كيف يبدو أحفاد آدم، بعيداً عن عقلهم "كونترولهم" الظاهر؟

أنيقون هم ولا شوائب في مظهرهم الخارجي. أمّا الداخلي، فهو ذاته بتعاسته التاريخية إيّاها: يتغيّر ولا يتبدّل. فهل التعاسة البشرية ـ إذن ـ هيَ هيَ أينما ولّيت وجهك؟ أظنّ ذلك (هأنذا أكتشف الماء الساخن). والمرجعُ أن الجوهر الإنساني متشابه في شجونه ـ إن لم يكن متطابقاً ـ والاختلاف فحسب في الدرجة.

وقد يحيل ما سبق إلى ملاحظتين إجماليّتَين تفتقران كالعادة إلى رصانة العلْم: الأولى: أنّ الإنسان خارج وعيه هو هو في الأربع الجهات. يختلف عن سواه بحضور عقله الظاهر فقط. والثانية نتيجة للأولى: فإن نكن "اشتركنا" طوال التاريخ في أمرٍ، فهو اشتراكيتنا الغابرة في تقاسم التعاسة الباطنة (الحقيقية).

وعليه، فخارج وعينا، نحن جميعاً اشتراكيّون! وأما داخله وأثناؤه فلا داعي لتكرار ما يعرفه الواحد منّا على جلْده، تحديداً في هذا الأوان حيث نشاهد اتساع الفوارق المخزي بين السواد الأعظم من الناس، وبين "الشريحة الأعظم". حتى ليظنّ المرء أن ماركس لو عاد ورأى ما نرى لتبلبل. فماذا سيقول الغلبان وقد انهار عمود رئيس من نظريّته المركزية (جعلناها لنا خيمةً، لتقينا انكسارَ "المخيّم") عن "صراع الطبقات"، كمحرّك ووقود نووي للتاريخ؟

فالحال أن البشر، إن لم يكونوا الآن، ففي طريقهم السريع ليكونوا مجرد طبقة كبرى مستغلَّة، مقابل شريحة (ليتها حتى "فئة") من المستغلِّين الكبار.

إنه دأب الرأسمالية وقد توحّشت: أن تراكِم أخضرَها فوق يابسِ الجميع، حتى ينحني القوس فتأكل نفسها بنفسها، كما تنبأ المرحوم. (وكما اختار ـ قبل عقود ـ واحدٌ من محازبيه الروائيين، هذا المصيرَ الأقسى لبطلِه الروائي)، حيّاك الله يا صُنع الله!

وما وردَ أعلاه، يُعيدني إلى العمال الفلسطينيين المياومين في الداخل الفلسطيني المحتل لا يزالون منذ ما بعد "سَمَك البحر". وكيف كان الواحد منهم ينام تحت مقاعد سيارة البيجو التندر (وفوقه أجسام وبساطير العمال)، بل يتنافس على اقتناص مطرح بـ"شقّ الأنفس"، فإن لم يظفر بهذا الشَّقّ الامتيازي، انْطَعَجَ على المقاعد مستاءً حتى يرنّخه لُعابُ النوم فيتساوى "اللابِد" و"المقتعِد" في الشخير العميم. فإن لم تواته حتى الغفوة، وسط هدير السيارة وجلال الفجر المذبوح، فلقد يفعل مثلي فيتأمّل وجوه رفاقه الغافين تحت المقاعد وفوقها، ويرى كيف أن الشقاء الإنساني هو الأصل، وما دونه ليس غير صورة فاهية.

والمغزى: ما إن يغيب الإنسان عن وعيه، حتى يتجلى جوهره الخالد: التعاسة!

أبانا الذي لا تحبّ المقاعد!


*شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون