مكاوي سعيد كما ودعه أصدقاؤه

مكاوي سعيد كما ودعه أصدقاؤه

04 ديسمبر 2017
(مكاوي سعيد)
+ الخط -
لم يتخيل أصدقاء مكاوي سعيد أن مجموعته القصصية الأخيرة "البهجة تحزم حقائبها" ستكون إذناً بالانصراف، وإعلاناً عن قرب موعد الرحيل، أو لعلهم أدركوا النبوءة لكنهم كذّبوا أنفسهم.

"مكاوي في الغالب لا يتكلم كثيراً، وأمس في لقائه معنا على المقهى، كان أكثر صمتاً وتحديقاً فينا كأنه يراقب العالم، أظن أن روحه كانت تستشعر ما سيحدث" يقول الشاعر عبد المنعم رمضان متذكراً اللقاء الأخير مع صاحب "تغريدة البجعة".

ويضيف في شهادته لـ "العربي الجديد" أن "مكاوي من عشاق القاهرة، وكان شاغله الأكبر هو الإحاطة بتاريخها وتاريخ الأشخاص الذين مروا بها وعاشوا فيها، أحببت مكاوي، وعندما أُبلغت بوفاته، وضعت سماعة الهاتف فوراً وأجهشت بالبكاء، وأيقنت أني أحبه أكثر مما أظن".

يتذكر رمضان لقاءهما منذ أسبوع عندما دار بينهما نقاش حول مسودة كتاب جديد أعدّه مكاوي عن القاهرة، ومن المفترض أن يصدر قريباً عن "الدار المصرية اللبنانية"، مؤكداً حرص مكاوي المستمر على التأكد من كل معلومة "كثير من المثقفين والكتاب الذين قابلتهم في الحياة يتحدثون عن كتب لم يقرؤوها وعن أحداث لم يحضروها، لكنني لم أصادف مكاوي مرة واحدة يدّعي ما لا يعرف، وأكبر صفتين تميّز بهما كونه (مشاهد) و(غير مدعٍ) وهما صفتين نفتقدهما كثيراً".

يوضح رمضان أن صاحب "اللامرئيون" كان منشغلاً قبل رحيله بتتبع سيرة الإمام الصوفي أحمد البدوي "كان حريصاً أن يحصل على السيرة الشفاهية، وليس السيرة المدونة، السيرة الشفاهية أبي كان يحفظها، وكان يلقيها علينا أنا وإخوتي، يا ليتني حفظتها لأهديها لمكاوي".

ويكمل: "في كل مرة كنت أذهب فيها إلي وسط البلد غير يوم الجمعة، أعلم أن استراحتي الروحية بعد قضاء ما أريده، ستكون مع مكاوي في مقهى "زهرة البستان"، الآن لن أجدها".

كراسة التحرير

عايش مكاوي ثورة 25 يناير وأصدر كتاباً بعنوان "كراسة التحرير" وثّق فيه لمشاهداته خلال أحداث الثورة، منطلقاً من رؤية إنسانية تركّز على البشر وتفاصيلهم وحكايتهم الصغيرة وليس الميادين العامة والأحداث الكبرى، يقول مكاوي في مقدمته للكتاب: "كنت أكتب مشاهداتي عن الثورة ملخصة في كرّاس بحجم الكف حملته في جيبي طوال أيام الثورة، وعندما عدت لمطالعته وجدت المرائي تتداعى، والمشاهد تتدفّق، وتأتلف مع مشاهدات أخرى، فقلت فليكن كراس أضعه بين يدي القارئ، خاصة أنني كنت واحداً ممن رأوا هذه اللحظة، وعاينوا أحداثها ودوّنوا وقائعها".

يُشير رمضان إلى أن ثورة يناير لم تكن مجرد حادث عابر في حياة مكاوي سعيد، بقدر ما كانت ممارسة حياتية ممتدّة سعى لأن تستمر طاقتها وروحها في حياته. "عقب 25 يناير اقترح مكاوي أن يكون هناك إفطار أسبوعي يوم الجمعة وظلّ هذا التقليد إلى أن تفرّق الذين كانوا يأتون، وفكّر مكاوي ومعه السيدة سوسن بشير صاحبة دار "آفاق" خلال الأيام الماضية بضرورة عودة تقليد الإفطار مرة أخرى، لكن الموت الأكثر سرعة منا، فعل ما شاء".

ذاكرة وسط البلد

حظيت منطقة وسط البلد بحضور طاغ في كثير من الأعمال الأدبية والفنية لمبدعين مصريين وأجانب مروا بها وأقاموا فيها وصاروا جزء من عالمها، إلا أن صاحب "مقتنيات وسط البلد" استطاع في هذا الزخم من الكتابات أن يصنع حيزه الخاص، ليس فقط على المستوى الأدبي فقط ولكن الإنساني أيضاً.

يصطحب مكاوي سعيد قراءه في رحلة ممتدة داخل جغرافيا وسط المدينة وتاريخها، هذه الجغرافيا التي تتشكّل ملامحها من خلال البشر وحيواتهم المتفرّدة وتفاعلهم مع المكان، ليصنعوا ذاكرة وتاريخاً مشتركاً، قد لا تهتم به كتب التاريخ الرسمية، لكن عين مكاوي سعيد تلتقط هذه التفاعلات لتنسج منها لوحة تجمع بين الحاضر والماضي، المقاهي والمكتبات، والثورة والسلطة، والحضور والغياب، والهامش والمتن.

"مكاوى سعيد واحد ممن كتبوا هامش الحياة المصرية وبشرها وعوالمها كما لم يكتب أحد، كان يكتب ببراعة المخلصين لناسه ومكانه وزمنه، وعاش لا ينتظر شيئاً من وراء إبداعه ووهب روحه تماماً لإيمانه" يقول القاص سعيد الكفراوي، متذكراً الحوار الذي دار بينهما في آخر لقاء جمعهما.

"كان حديثنا عن روايته الجميلة "أن تحبك جيهان" كنت أتكلم وهو صامت تماماً، وكان يصغى لكلامي باهتمام، ولم أكن قد حدثته سابقاً عن الرواية، كان يشعر بالسرور من كلامي، ولكنه لم يتلفظ لفظاً واحداً، وصلني حزنه فصمت. وفجأة نهض واقفاً، فقلت: مالك يا مكاوي مستعجل كده ليه؟ ما تقعد لسه ما قعدناش مع بعض، نظر مكاوي ناحيتي وقال خلاص زهقت يا عم سعيد وعاوز أروح. وخطا من خلف الزحام واستلم طريقه ومضى حيث وجه الكريم".

ويختتم الكفراوي شهادته "يغيب مهما غاب، لكنك تشعر فى غيابه بالمؤانسة والمسامرة، وإذا رآك بعد غيبة عاتبك العتاب الجميل على غيابك أنت، مكاوي الروائي الذي جمع العالم بين قبضتيه ونظر إلى الدنيا بعين الرائي الخبير".

الشغف بالتاريخ

في كتابه "مقتنيات وسط البلد" جمع مكاوي ما بين السيرة والإنثروبولوجيا والأدب عبر تتبع شخوص وحكايات وأماكن عديدة، قسمها إلى جزءين أحدهما بعنوان "كتاب البشر"، و"كتاب المكان"، وما بينهما وضع روحه الخاصة التي جعلت من الكتاب بمثابة "مانفيستو" لعشاق مدينة القاهرة وليس وسط البلد فقط، فعلى مدار الكتاب ينتقل مكاوي بين أحياء وأماكن مختلفة تعكس وجوه متعدّدة للمدينة من جمال ودهشة وقبح وصراع.

يرى مكاوي أن مقولة "التاريخ يعيد نفسه" صحيحة إلى حد كبير لذلك حرص في معظم مقالاته الصحافية أن تكون تنقيباً في التاريخ "قراءة التاريخ تجنبنا مصائب قد تحدث في المستقبل" بهذه الكلمات لخص صاحب "فئران السفينة" رؤيته للتاريخ فهو ينطلق منه ليتطلع إلى المستقبل.

"ميكي" صانع البهجة

مكاوي أو "ميكي" كما كان يحب أصدقاءه مناداته، كتب أكثر من عمل للأطفال منها "جنّي يبحث عن وظيفة"، و"كوكب النفايات"، و"الببغاء الأخرس"، ورغم عدم تسليط الضوء عليهم من قبل الإعلام، فضلاً عن عائدها المادي الضئيل، إلا أن صاحب "ليكن في علم الجميع سأظل هكذا!" كان يرى أن الكتابة للأطفال هي النوع الأدبي الأقرب إلى قلبه والمفضل لديه، مشيراً إلى أنه تعرّف على القراءة من خلال مجلة "ميكي"، وأول أجر حصل عليه من الكتابة كان نظير قصص للأطفال نشرتها مجلة "ماجد".

الكاتبة عزة سلطان تقول "من اللافت للنظر أنهم يدعونك ميكي، تلك الشخصية التي تربينا عليها، ميكي مرادف البهجة في طفولتنا، لتأت ‏أنت فى زماننا ينادونك ميكي، تجلس على طاولتك توزع ابتسامات متساوية للمارة والعابرين، كيف كنت تلتقط نظراتي وأنا أمر مهرولة لكنني ‏لا أفلت منك، تبتسم، وترفع يدك فى تحية مشوبة بالود، تولد ابتسامة على شفتي وتتباطؤ خطواتي، كنت ‏أحياناً أتوقف لأصافحك ونتبادل بعض الأخبار الاعتيادية ثم أستكمل طريقي وأتركك مكانك".

وتضيف: "لدي مخزون كبير من ابتسامتك وليس لدي صورة معك، كل مرات اللقاء العابرة وغير المرتبة لم ينتج عنها ‏صورة، ربما هو فعل مقصود لتبقى حلماً في عيني.‏ هل قصصت عليك ما حدث فى ذلك اليوم، صحوت ليخبروني أنك غادرت لم أصدق، وظللت بضع ساعات ‏أنكر الخبر، لكنني حين استمعت لآذان العصر كتبت على الفيسبوك أسأل عن بيت العزاء، أجابني بعض الأصدقاء ‏الآن نصلي عليه في مسجد السيدة نفيسة، لا أعرف كيف ارتديت ملابسي، لكنني كنت هناك قبل أن تصل، دموعي كانت أسرع من وصولك، وحين خرجت ‏كان خروجاً بمأخذ سحري، لم يجدوا سائق العربة التي ستقلّك إلى عنوانك الجديد، وقفوا يحملونك، تخيّل يا ‏ميكي سائق العربة غير موجود لأكثر من ربع ساعة، وأصدقاؤك يحملونك ونحن جميعاً حولك، نبكي فقط لم ‏يملك أحد منا ابتسامتك، كلما ظهرت في عيوننا بابتسامتك ازداد النحيب، وسائق العربة غيابه يطول، ‏والناس تحملك، وأنت تسمعنا، لماذا لم تمد يدك لنا لتصافحنا؟"

"تودعنا وداعاً صامتاً، أخبرني هل طلبت من السائق أن يختفي، كنت تريد ‏أن نأنتنس بك بعض الوقت، لم تعطنا وقتاً لنتأهل لرحيلك، فاجأتنا وفجعتنا.‏ وجدوا السائق بعد أكثر من ربع ساعة، لكن العربة لم تتحرك بسهولة، اتخذت الطريق الأطول لتبقى وقتًا ‏إضافيًا بيننا".

وتكمل "عزيزي ميكي أود أن أطمئنك ابتسامتك محفورة على طاولتك في المقهى، وشوارع وسط البلد لا تخلُ من طيفك، أما كتاباتك ‏فهي شاهد أثر على وجودك المستمر دائماً.‏ عزيزي ميكي كلما مررت سأرد ابتسامتك حتي تأتي وتجمع ابتسامتنا ولا تنسى أن تحكي لي كيف أقنعت سائق ‏العربة بالاختفاء".‏

نظرة قبل الوداع

منذ عدة أيام شاهدته سائراً كعادته بخطى هادئة في شارع هدى شعراوي، قادماً من جهة حي عابدين ومتجهاً إلى قلب وسط القاهرة، كان مرتدياً نظارته وقبعته الشهيرة، ومنشغلاً بتأمل الشباب الجالس على المقاهي. فكرت وأنا أقترب منه أن ألقي عليه السلام كما اعتدت، لكنني تراجعت مفضلًا ألا أقطع تأمله.

لم أتخيل للحظة أن هذه المرة الأخيرة التي أراه فيها، لم يكن يبدو عليه أي تعب، بالعكس كان في كامل أناقته وحضوره، وبدَا كمالكٍ لهذه المدينة، يسير مستمتعاً بزخمها ومتذكراً بصماته في كل موضع فيها، كأنه يشعر أن موعد الرحيل إقترب، وعليه أن يلقي سلامه الأخير على مدينته.

المساهمون