طريق إلى الميتافيزيقا

طريق إلى الميتافيزيقا

03 ديسمبر 2017
("الصورة كعبء"، مارلين دوماس)
+ الخط -

يكتشف المرء وهو في عربة الإسعاف، أن التعالي على الألم هو أيضاً طريقٌ إلى الميتافيزيقا. وحين تتلطّف معه الممرضة الشقراء، مستفسرةً عن حاله "الآن"، يقول لها إنه أفضل، مع كل هذا الجمال الباسكي.

لكن.. كل شاعر يستحق هذا اللقب، هو عدميٌّ على نحوٍ ما، يا دونيا كربوليتو. تصل العربة إلى مشفى سان رفاييل، ويسكت الجئير، فيفكّر المرء بهذا الشكل: "لا أتحمّل عدّائي المسافات الطويلة. دُمىً يحركها هدفٌ سخيف".

"هل أنت بخير؟" تسأله كربوليتو، فيقول: تقريباً، بيد أني ولا مرة حلمت بسماع نكات. هل لأن أمثالي يرون حطام المعركة، بينما المؤرخ يرى سببَها ونتائجها، يا دونيا؟

تطرق كربوليتو، لثانيةٍ ونصف الثانية، ثم تكتشف تفاحة العم نيوتن: "لا يوجد ألمٌ ميت". فيقدح المرء ذهنه ـ رغم أهوال المعدة ـ ويُجاريها في اكتشاف المُكتَشَف: لا يوجد أمام الحمار، مطلق وكليّ ولانهائي. يوجد فقط كيس العلف. لا يوجد أمام الإنسان، كيس العلف. يوجد فقط مطلقٌ وكليّ ولانهائي. هل لاحظتِ هذه النكتة من قبل أيتها اللطيفة كربوليتو؟

كربوليتو تُشرق بالإطراء، مع قبس من حياء وراثي شفيف. فيقول لها المرء قبل أن يرفعوه من النّقالة إلى السرير القارّ: خذي عندك. مرة، في كولسيرولا، استوقفتني شجرة نوّاحة. تلبّثت أتأمل أوراقها القُرصية الصغيرة وهي تتراعش بمرور أهون الريح، فتذكرت دنانير المتنبي. ترى ما اسمها تلك الشجرة؟ وهل تعرفين المتنبي يا دونيا كربوليتو؟

إنه شاعر من عندنا غير شائع عندكم. وإن يكن التعميم عماء، حتى لو قلتِ 1+ 1 = 2.

يوضع المرء بجانب امرأة، ويلمح معدتها المكشوفة، فيفكّر: إنسان العصور الحديثة، مرتبطة معدتُه بالسوبرماركت، عيناه بالتلفزيون والجوّال، وقتُه بالعمل، كم بقي منه مرتبطاً بالطبيعة؟

تأتي ممرضة أخرى بإبرة المسكّن، وتغزّه، فيستفسر: لِمَ تصبح الغرفة رمادية حين أُغَزُّ هنا، وحين تمطر؟ لم تكن هكذا هناك. أيرجع السبب إلى كثافة الشجر هنا وقلّته هناك؟ ربما ـ تجيب الممرضة باقتضاب متجهّم وتمضي لشغلها.

يحسّ المرء بالوحشة، فيفتح جواله خوفَ تبخّر اللمعة ويكتب: "كل كاتب، يأتي وقت ويتجاوزه الزمن. هذه قاعدة رحيمة في الأدب، ينبغي علينا تقريظها. فبغير هذا لن ينبثق برعم التجديد، ليكون بدوره شجرة، تزدهر ثم تيبس فتتحول غنيمة لصغار الحطابين، وهكذا دواليك. قاعدة وأي استثناء لها يؤكدها".

يغفو المرء ويتألم. صفرُ أحلامٍ ويستيقظ، فإذا الغرفة ملأى بالجميلات الصاحيات، يدردشن ويتضاحكن بانضباط مهني صارم. ينتبه المرء ويصفن: "أوقات، حين أُدمن تأمل الوجوه العابرة، أفكّر بخطر استهلاك الجمال على الشاعر".

تغلق الجميلات الغرفة، فينظر المرء عن يمينه ويساره، ويرى صاحبة المعدة تحلم، فيتراجع عن المبالغة في الألم. لا يتراجع عن هذه بَسْ، بل تضرب في رأسه فيتحدّى هيرقليطس: يُحكم إغلاق الغرفة، ليعبرَ الهواءَ نفسه مرتين.

يهزمه هيرقليطس: ففي عبوره، لم يكن الهواء هو نفسه مرّتين، ولا كان هو كذلك.

يتململ المرء ويقوم واقفاً على الباب. الحياة عبور بين غرفتين؟ ألهذا تتلكأ السنيورة البوليفية وهي تمسح البلاط بينهما؟

يتعب المرء وينام مستنداً إلى الحائط.

يرى فيما يرى النائم أن الحائط زال. أن لا فائدة يا حاج سعد، لا منك ولا من لحافك المؤسطر. وأنه حين يصحو سيحترم الحمار أكثر: أخونا غيرُ مَعْنيّ بالأُسطورة.

ليت الإنسان مثل الحمار.

المساهمون