إلى أين تنظر؟

إلى أين تنظر؟

29 ديسمبر 2017
(مقطع من لوحة لـ هلا عزالدين)
+ الخط -

حتى اليوم ربما كانت الرواية - والرواية العربية هي حقل أصيل من تاريخ الرواية في العالم - هي الحقل الثقافي الوحيد الذي استطاع أن يستجيب لمتطلبات الوجود البشري القائم على الحوار والمعرفة المتبادلة. على تعدد وجهات النظر، لا على اعتبار أن وجهة نظري هي الحقيقة فقط. وقد لا يستطيع هذا الكاتب، أو ذاك، أن يقفز فوق ميوله ومشاعره وتعاطفه مع القضايا التي يؤمن بها، غير أن الكتابة الروائية تقترح ألا يتجاهل وجود الآخرين.

تعدّد وجهات النظر أو تعدّد الرواة ليس مجرّد تقنية روائية قد تظهر في عدّة أشكال، بل هي موقف من الإنسان والقيم. (وقد جرّبها غالب هلسا في روايته "ثلاثة وجوه لبغداد"، وغائب طعمة فرمان في روايته "خمسة أصوات" وقدّمها لنا لورنس داريل في "رباعية الإسكندرية") وفي مثل هذه الحالات يسمح تعدّد الرواة بتعدّد وجهات النظر، أو تعدّد احتمالات الحقيقة، ولنا مثال غريب في كتاب عنوانه "حكم وأفكار" يحكي فيه الكاتب الفرنسي لا روشفوكو أن متمرداً إيطاليا اسمه ماسانييلو تمكّن من الاستيلاء على نابولي وقام بإحراق ممتلكات الجمارك التي أخذت بطرائق مشبوهة.

ويقول الكاتب إن ماسانييلو هذا مات في هذيان جنوني بعد خمسة عشر يوماً من التمرّد. غير أن مُراجع الكتاب يقول في الهامش إن هذا ليس صحيحاً وإن قتلة مأجورين هم الذين اغتالوه بأمر من نائب الملك.

المراقب للتناول الشفوي لأي حادثة سوف يلاحظ أن رواة أي حادثة يغيّرون في التفاصيل دائماً، وهناك من يقول إن هذا المحدّث أو ذاك قد أضاف بعض التوابل إلى الحقيقة أو إلى حقيقة الحادثة. ويعكس هذا المنحى تعدّد وجهات النظر بتعدّد الرواة، من الناحية التقنية، مثلما يؤكد على أن وجهة النظر قد تقارب حقيقة الحدث، وقد تبتعد عنه، بحسب الموقع الفكري الذي يتخذه صاحب الرواية.

ويمكن لهذه الملاحظة أن تساعدنا على القول إن جميع وجهات النظر هي حق للبشر عامة، وأنه من غير الأخلاقي أن يزعم أي شخص أن للموضوع الواحد مقاربة وحيدة لا غير، ذلك أن السير في هذه الطريق يعني في آخر الأمر الامتناع عن فهم الآخرين، أو رفض وجهات النظر. وما يجب أن يدعو إليه الكاتب، أو الفنان، هو القبول بأشكال لا حصر لها من وجهات النظر لمشاكل البشر، وأنماط عيشهم.

لهذا من الصعب أن نسمّي ما يدور في الثقافة السورية حواراً واختلافاً في وجهات النظر. فالشجار هو الروح التي تغلب عليه. والمصيبة أن القيم الإنسانية الكبرى هي الضحية. فالحرية التي تدعو إليها أنت تحاصرني وتخيفني، والديمقراطية التي تريد جلبها لنا معدة في مطابخ لا تعجبني، ولا يمكن أن تناسب ما أريده من الديمقراطية. وقل مثل ذلك عن العدالة وحرية التعبير وموضوع الاستعمار.

على أن أعجب ما في تلك الشجارات هو الموقف من الغزاة والطغاة الذي ينقسم بين مؤيد ورافض. فهل يعقل أن نكون أمام "وجهات نظر" تفاضل بين محتل وآخر، وهل تلك هي وجهات النظر؟

المساهمون