"أوسلو" في زمن ترامب

"أوسلو" في زمن ترامب

12 ديسمبر 2017
(مشهد من المسرحية)
+ الخط -

مسرحية "أوسلو" ليست الاتفاقية السياسية الفاسدة التي وُقّعت قبل قرابة ربع قرن تقريباً، بل هي عمل مسرحي أميركي بريطاني يُعرض هذه الأيام على خشبة "مسرح هارولد بينتر" اللندني.

كاتب العمل الأميركي جي تي روجرز، ومخرجه الأميركي بارليت شير، لم يكونا أقل سوءاً من سمسار العقارات البلطجي دونالد ترامب، والذي يستحق أن يؤلف ذات يوم كتاب مذكرات بعنوان "الحياة صفقات". فهما، أي المؤلف والمخرج، يستحقان الدرجة الكاملة في التزييف وإغضاب الضمير الإنساني. ولعل البروبغندا السياسية المنحازة إلى كيان الاحتلال هي ما "ساعد" على نقل المسرحية من شارع برودواي في نيويورك إلى شارع المسارح اللندني في "بيكاديلي سيركيس". للأسف، لم يُردّ عربياً على هذا العمل الدعائي الذي من الصعب التعامل معه كعمل فني، إذ بدا فقيراً من الناحية الدرامية، وحتى على مستوى السينوغرافيا.

يكشف العمل، وبوضوح لا يخضع للتأويل، أن النظرة السائدة في التيار المركزي الغربي، وليس فقط جماعات اليمين القومي، هي أن الفلسطينيين إرهابيون ولا شيء آخر، إرهابيون حتى وأقطاب من منظمة التحرير يتلهفون - بسلوك كاريكاتوري هزيل كما تظهرهم المسرحية - للتآمر على بعضهم البعض. في حين أن إسرائيل "تتجرّع السم" من أجل السلام.

صُمم العمل ليصفق المشاهدون على القفلة التي اختيرت بعناية، من خطاب "رئيس وزراء إسرائيل" القتيل إسحق رابين، في حديقة البيت الأبيض، الخطاب الذي بدأ وانتهى بالمعاناة والتضحيات الإسرائيلية، ولم ترد به أي كلمة عن السلام، فيما غاب الشهيد ياسر عرفات عن المشهد إلا في مرة واحدة زُجّ به ليكون المهرّج.

لم يكن المشهد الختامي إلا النصف الثاني المكمل للمشهد الافتتاحي من المسرحية، حيث تعرض صورة ضوئية على الخلفية لفتى فلسطيني يلقي حجراً وفي مقابل رأسه بالضبط، لا مكان آخر، كان جندي إسرائيلي يتأهب لإطلاق النار.

خرج الحجر ولم تخرج الرصاصة، فلقد توقفت الكاميرا عن العرض فجأة وبُترت الصورة. وفي الخلفية تظهر بطلة العمل الموظفة الدبلوماسية في وزارة الخارجية النرويجية، مونا يول (الممثلة ليديا ليونارد)، وهي الراوي طيلة العمل، لتقول إن صبياً بلباس مدني يتعارك مع شاب بلباس رسمي، ولم تتفوه إطلاقاً بما يشير إلى جيش وجنود احتلال وسلاح طوال المشاهد المتتابعة، متسائلة ببراءة مزعومة: متى ينتهي هذا؟

يضعك العمل في بدايته أمام هذا الانحياز، وهو ليس مساواة بين الضحية والجلاد، فمجرد فبركة المساواة هو انحياز كامل للقاتل الحقيقي؛ إسرائيل. لكن مونا هنا صاحبة نوايا طيبة، هكذا يجب أن تظهر، امرأة بيضاء شقراء حسنة القوام والهندام، ذكية ومتحدثة، تقف إلى جانب زوجها البطل المسخ، كما أراده روجرز، إنه تاريه رود لارسون (توبي ستيفنس)، الذي كان وقتها مدير "المعهد النرويجي للعلوم الاجتماعية التطبيقية - فافو".

وفي داخل منزل نرويجي من منازل الطبقة البرجوازية الصغيرة، بدأ لارسون يحدّث زوجته عن خطة نبتت في رأسه تداول بشأنها مع صديقه يوسي بيلين (جاكوب كيرشكفسكي)، الذي كان حينها نائبا لشمعون بيريز (وزير خارجية حكومة "حزب العمل الإسرائيلي" المنتخبة حديثاً)، عن فتح قناة اتصال سرية بين شخصيات من "إسرائيل" وأفراد مقرّبين من زعيم "منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات، وأنه لا يريد لأحد لا في النرويج ولا في الولايات المتحدة أو في أي دولة في العالم أن يسمع بها. ما كان من مونا إلا أن شعرت بالإثارة والحماسة الشديدتين لخطوة زوجها، من دون أن تعبّر له عن خوفها من القيام بعمل بهذه الدرجة من الخطورة وهي موظفة رسمية في وزارة الخارجية النرويجية.

ورغم أن هناك عشرات الكتب والسير الذاتية التي سجلت وقائع "أوسلو" من قبل فلسطينيين شاركوا فيها، بعضهم لا يزال على قيد الحياة، إلى جانب إسرائيليين وغربيين؛ إلا أن روجرز انتقى حبكته الخاصة، حيث صوّر الفترة المشابهة لخريف لندن 1992، بالمكان والزمان، الذي تم فيه التواصل بين لارسون ومونا وبين أحمد قريع (بيتر بوليكاربو) وحسن عصفور (ممثل مغربي بريطاني يدعى نبيل الوهيبي)، لنقل رسالة لهما من قبل يوسي بيلين، مفادها أنه مستعد لفتح حوار تبادل أفكار بشأن السلام بين "إسرائيل" و"منظمة التحرير" من خارج القناة الرسمية في مفاوضات "الكوريدور" في واشنطن، وأن بيلين أوفد إلى العاصمة البريطانية كلا من أستاذ الاقتصاد يائير هيرشفيلد (باول هيرزبيغ، نفس مؤدي دور بيريز) ورون بونداك الذي يجري تقديمه كمؤرخ في حين أنه ضابط شاباك سابق (أدى دوره توماس أرلنود)، لبحث هذه "الفرصة" التي تؤيدها مونا، رغم خوفها الشديد على مستقبلها الدبلوماسي حال انكشف الأمر لدى حكومتها النرويجية.

البيت الريفي الكبير يحتضن "الخصمين" في ضاحية قريبة من العاصمة أوسلو، بعيداً عن وسائل الإعلام، وبحجز تذاكر طيران على الدرجة السياحية وبدون مواكب ملحوظة، الغرباء لا يجب أن يثيروا فضول الجيران، لارسون متحمس ومتكتم، أما مونا فكانت معنية بأدق التفاصيل، حتى إنها حرصت على إحضار خادمة سويدية (كارولين غابل) تجيد الإنكليزية، كي يتحدث الجميع بلغة مفهومة، أي لغة أميركا الرسمية، أما زوج الخادمة الألماني (أنتوني شيستر) فكان محكوماً عليه بالصمت لأنه لا يتحدث إلا الألمانية، وهي ليست محل ترحاب هنا مع الضيوف الإسرائيليين.

تُظهر المسرحية أحمد قريع مثل أحد شخصيات كارل يونغ، المتبجحة والرثة في آن، الشهوانية والمتآمرة والعصابية المتألمة والسكيرة، كثيرة التدخين، والمتحرش بمونا وخادمتها السويدية. أما حسن عصفور، فكان هذا الانفعالي الشيوعي الهزلي الذي يجب أن يشك فيه الصديق أبو علاء، وزير مالية منظمة التحرير، قبل أي أحد آخر.

صحيح أن تركيب الشخصيات لغرض البناء الدرامي ليس مشروطاً بالواقع دائماً، لكن عدم التوازن في طرح الشخصيات بصورة يقصد منها تحميل رسالة إجمالية مفترض أن صناع العمل يبتغونها، هي في النهاية -وفي سياق العرض الغربي- تسخيف للإنسان الفلسطيني والتنكيل به على جميع المستويات.

في المقابل، بدا كل من هيرشفيلد وبونداك، أخلاقيين أكثر، وجادين في عملهما من أجل السلام، خصوصاً مع المواجهة التي جرت بينهما وبين مبعوث بيريز، أوري سافير (فيليب أردتي، وهو ممثل من أصول يهودية سفاردية)، حيث أطاح بهما جانباً ليصير هو البطل الحقيقي للعمل، وأُفردت له مساحات عدة للسخرية من ياسر عرفات ومن لارسون نفسه، كما طوى تحت جناحه "صديقه" أبوعلاء، متبادلاً معه خططاً مخادعة - في أثناء سيرهما داخل غابة قرب أوسلو- لمحاولة إقناع رابين وياسر عرفات بضرورة الموافقة على اتفاق مبهم (الإبهام هو نصيب الفلسطيني بالطبع).

وتظهر المفارقة هنا أن أبو علاء الذي كان يمثل إجراءه اتصالات وهمية مع عرفات لم يقم بها أصلا، وأنه كان يقدم تنازلات لإرضاء صديقه البارع سافير، أما الأخير فاستطاع أن يقنع صديقه أنه ملزَم بقرار الحكومة الإسرائيلية، والاسترشاد بتنقيحات المحامي يوئل سينجر (جون لوتن) لتنقيح مسودة اتفاق أوسلو التي أصرّت على عدم مناقشة الاستيطان، وأجّلت القدس لـ"الحل النهائي"، وذلك لأجل عيون الذكية الفاتنة مونا.

وقبل التوقيع بلحظات حدثت القصة المعروفة عن رفض عرفات المضي قدماً من دون الاعتراف بمنظمة التحرير كمقابل للاعتراف بشرعية إسرائيل، وهو الأمر الذي حسمه، بحسب المسرحية، الدبلوماسي الأميركي داني ستيوارت، بزجره أحمد قريع وقبوله بالأمر، ليجرجر قريع قدميه مسنوداً على كتف أوري سافير.

تنتهي المسرحية بأن يقف لارسون وزوجته مونا في الظل، وحين يحتشد كبار الضيوف في الواجهة، يغيب "البطلان" عن المشهد الاحتفالي، وفي السنوات اللاحقة تطوي الأمراض الخبيثة والنسيان صنّاع ذلك "السلام"، في رؤية أميركية نمطية عن نهاية المقامرات.


رغبة القفز للكم أحدهم
من الصعب أن تكتب بهدوء وأنت تتتبّع الأكاذيب في مسرحية "أوسلو"، لدرجة أنك تريد أن تقفز على خشبة المسرح لتلكُم أحدهم بقبضتك ليصمت، وقد يصفق الجمهور أو الغائب منه سياسياً للمشهد، ظناً أن "الدخلة" من دواعي الإخراج، وتتبع أيضاً أرقام الوقت الزاحفة ببطء في هاتفك الذكي، منتظراً رفع الستارة، مستعجلاً مساحة للتنفس من دون أن يشدّك الغضب النقدي من هذا العجز المريب أمام واقع يقوم على الكذب الإبداعي، ضد جميع قضايا التحرر، وفي طليعتها قضية فلسطين.

في الأيام القليلة الماضية، وتحديداً في السادس من كانون الأول/ديسمبر، خرج علينا أيضاً رئيس أميركي سيتذكره التاريخ طويلاً، لحماقته بـ"قرار" - جعل مسؤولين عربا (بعضهم ليس أقل حماقة) يصفونه بـ"قتل لعملية سلام"- لم يكن سوى مسرحية رديئة كمسرحية أوسلو اللندنية.

السلام المقتول أو الذي كان مدفوناً، لم يكن على ما يبدو قد وصل نبأه لهؤلاء، ظناً منهم أو توهماً أنه ما كان إلا في غرفة الإنعاش التي يسمونها "عملية السلام"، ما استوجب منهم التحليل والتقييم والتنديد والتحذير بشأن ميت، فيما الجماهير العربية أو الفئات الفاعلة منها في المجال العام، يمزقها الغضب وتندفع للاحتجاج والتظاهر ضد سلب الحقوق، التي هي ذاتها تُسلب منذ عشرات السنين، وهي ذاتها التظاهرات التي تخرج منذ نفس تلك الحقب أيضاً.

المساهمون