على هامش "الوعد".. أن نكمل الحكاية لأولادنا

على هامش "الوعد".. أن نكمل الحكاية لأولادنا

09 نوفمبر 2017
منى حاطوم/ فلسطين
+ الخط -

لمْ تكن تلك القطع النحاسية المربعة الشكل والتي تُرصف مع البلاط في كثير من الأرصفة في مدينتنا الألمانية هامبورغ لتُثير اهتمامي حتى وجدت يوماً وردتين حمراوين.

تحدّ الوردتان مربعين متلاصقين، ويدل شكلهما على أنهما قد وضعتا بعناية، واحدة قرب كل مربع منهما ولم يسقطا من يدي عاشقين بعد لقاء خائب. اقتربت والتقطتُ من هاتفي المحمول صورة ومضيت في طريقي أتأملها مكبراً إياها بحيث أستطيع قراءة ما كُتب على هذا المربع: هنا كان يقطن فلان الفلاني، ولد عام 1889 ورُحّل عام 1941 إلى "ريغا" وقتل.

المربع الثاني كان لامرأة تحمل اسم الشهرة نفسه، وهي على الأرجح زوجة صاحب المربع الأول. كان الاسم يشي بدين صاحبه، الأمر الذي يوضح الأمور، لكنني لم أكن أعرف "ريغا" هذه. من خلال بحث صغير على النت عرفت أنها عاصمة ليتوانيا حالياً حيث أنشأ النازيون غيتو جمعوا فيه يهودها ومن ثم رحّلوا إليه يهود ألمانيا سنة 1941 ليتم قتلهم هناك. لم تكن المربعات النحاسية هذه التي عاينتها لاحقاً تختلف عن السابقة كثيراً... منهم من رُحّلوا في عام 1942.

■ ■ ■

ولا يمر أسبوع إلا ونرى على القنوات الألمانية، برنامجاً أو جزءاً من برنامجٍ يتكلم عن "المحرقة" حيث تتعالى الأصوات لإدانة النازيين والتنصل من تاريخهم الأسود، فتُذرف الدموع وتُضاء الشموع لذكرى الضحايا. ولا نبالغ كثيراً إن قلنا إن الألمان يبكون الضحايا ويهتمون بذكراهم أكثر من أولادهم أنفسهم، فتجري العادة عندهم على "دحش" أولاد عمّنا في كل مناسَبة، مناسِبة أو غير مناسِبة، كنوع من التعويض أو الشعور بالذنب تجاههم.

فقبل أيام، وعلى سبيل المثال، بثت قناة "دويتشه فيليه" الألمانية حلقة من برنامجها "واحة الثقافة" وقد كانت الحلقة بعنوان "مارتن لوثر وخمسمئة عام على حركة الإصلاح"، ومن بين من يستضيفهم البرنامج فنان روسي يهودي يتكلم عن "علاقة مضطربة" مع مارتن لوثر. فبحسب الفنان الروسي إن "مقولات لوثر المعادية لليهودية" قد استغلها النازيون في سياستهم العنصرية، ويرى أيضاً أن الجانب المظلم في حياة هذا الإصلاحي البروتستانتي تفوق الجوانب الإيجابية.

وربما يجد الكثيرون في محاباة اليهود والألمان (كتحصيل حاصل)، طريقاً سريعاً للشهرة أو للبروز، وما أكثر تلك الأمثلة التي، للأسف، يكون أبطالها من الشعوب التي ذاقت، وما زالت، ويلات أو تبعات هذه المحرقة. كأن يصبح الوقوف أمام النصب التذكاري البرليني، الذي يخلد ذكرى الضحايا اليهود في المحرقة، والتحدث في أي أمر له علاقة بالحادثة، فرضاً لنيل الرضى وفتح الآفاق.

■ ■ ■

والفرنسيون ليسوا أقل حرصاً من الألمان... فخلال إقامتنا في مطلع هذه الألفية في عدة ضواحٍ باريسية، علق في ذاكرتنا حدثان لم نستطع نسيانهما. ولا شك أننا جميعنا قد مررنا بمواقف مشابهة، إن بدأنا في سردها فلن ننتهي أبداً.

نذكر أننا قد حضرنا تدشين رئيس إحدى البلديات اليمينية وهو من أصول أرمينية لنصب تذكاري يخلد الشهداء الأرمن، تكلم حينها على الملأ عن أن الشعب الأرمني قد عرف مذابح على يد العثمانيين وذكّر بأن الشعب اليهودي قد عرف هو أيضاً مأساة كبيرة تمثلت بمحرقة شنيعة نفذها النازيون.

وقبيل هذه الحادثة، وكنا نسكن في ضاحية باريسية اشتراكية الهوى، عادت طفلتنا في أحد الأيام من مدرستها تحمل كتاباً مصوّراً كبيراً أنيقاً قد أهدته البلدية إلى جميع الطلاب. فتحنا الكتاب نقلب صفحاته لنرى صوراً ونقرأ نصاً عن طفل كان يعيش بسلام ومن ثم ليأتي جنود يحملون السلاح وعلى سواعدهم صليب النازية المعقوف فأخذوا أهله... إلى بقية القصة المتعارف عليها.

وصار أن التقيت بعد أيام بجارنا اللبناني، ولديه من الأولاد من يتردد إلى نفس مدرسة ابنتي، فسألته إن شاهد الكتاب وما رأيه به، فقال لي إنه كتاب عظيم، وتابع، هل أكملتَ لابنتك الحكاية؟ نظرت إليه مستغرباً مستفسراً فقال: لقد قرأت الكتاب مع أولادي ومن ثم أكملت لهم الحكاية أن هذا الطفل، عندما كبر، ذهب إلى أرض فلسطين... ولا داعي هنا أيضاً كي نكمل قصة نعرفها جميعاً، لكن نأمل من الغرب أن يعترف بها فقط، ولن نطلب منه لا شموعاً ولا دموعاً.


* تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا

المساهمون