جان روش.. من خارج القبيلة الباريسية

جان روش.. من خارج القبيلة الباريسية

12 نوفمبر 2017
(جان روش في 2003)
+ الخط -

"تطوّر وسائل النقل لم يكن موازياً لتطوّر المعرفة البشرية. لا تفعل البواخر أكثر من ملامسة عدد من الموانئ، أما الطائرات فتعبر البلدان دون أن تراها، حتى السيارات فهي تمرّ سريعة في طرق مستقيمة. وحده السير على الأقدام، ببطء وبصبر، يمنحنا فرصة أن نكتشف أرض البشر"، هكذا كتب ذات مرة الأنثروبولوجي الفرنسي، جان روش، (1917 – 2004) الذي "لو عاش إلى يومنا هذا لكان عمره مئة عام" كما يقول تقديم المعرض المخصّص لاستعادته في "المكتبة الوطنية الفرنسية" في باريس، والذي يستمر حتى 26 من الشهر الجاري.

هذا الحديث عن أشكال وصول المعرفة إلى غير الأوروبي كان هاجس روش طوال مسيرته، لم يكن راضياً على المدوّنة الأنثروبولوجية المتراكمة رغم ادعاءاتها وطموحاتها الكبرى. ظلّ يبحث عن سبل يمكن بها أن نروي حكايات الآخرين ونتعرّف عليهم، دون أن تتسرّب حكايات جاهزة عنهم؟

تتم استعادة روش بالأساس من خلال خط كرونولوجي لمجموعة أفلام وثائقية أنجزها، ولكن بالأساس من خلال أدواته، أدوات الأنثروبولوجي الذي لم يعد يرى أن دفتره كاف لتسجيل الملاحظات، بل يجب عليه إدخال التكنولوجيا والميديا إلى عمله شيئاً فشيئاً.

لم يكن ترفاً إدخال التطورات التقنية إلى "علم الإنسان"، كان روش يرى أن التوثيق التقني عامل لإنتاج مصداقية جديدة لعلم له "هشاشته" من ناحية الموضوعية، حيث إن تسجيل رواية أحد شيوخ القبائل الأفريقية صوتياً أو تصوير حياة جماعة ما، يمكن أن يتيح مراجعة وقراءة ثانية لملاحظات الأنثروبولوجي، والتي كانت تؤخذ كمسلّمات للدرس حين تعود إلى أوروبا كما حدث مع كبار المجال مثل برونيسلاف مالينوفسكي وكلود ليفي ستروس.

أكثر من ذلك، في حركة بسيطة وثورية، جعل روش من موضوع الدراسة الأنثروبولوجية، السكان الأصليين، عنصراً مؤوِّلاً للمواد التي يجري تجميعها، وهو أمر كان يحتكره "الأوروبي العالِم". في 1957 وبعد أن جمع قرائن حول حياة قبيلة إيفوارية، أتى الأنثروبولوجي الفرنسي بأحد أبنائها، أومارو كاندا، للتعليق عليها وتفسيرها. كان هذا التغيير البسيط بداية لمراجعات المشروع الأنثروبولوجي برمته.

هذه المراجعة تمثّلت أيضاً بتطبيق الأنثروبولوجيا على "المركز" نفسه كما يظهر ذلك في العمل البحثي المشترك مع المفكر إدغار موران، والذي نتج عنه فيلم "يوميات صيف" (1961) والذي رصد كيف يعيش الناس وينظّمون أنفسهم في "القبيلة الباريسية".

بشكل عام وفي أفلام كثيرة، مثل "المعلمون المجانين" (1957) و"الهرم البشري" (1961) و"جغوار" (1968)، بدا روش ساخراً من ادعاءات الأنثروبولوجيا الغربية عن تقديم معرفة حول بدايات البشرية وفهم المجتمعات في أفريقيا وأميركا وأقيانوسيا، ومن ثمّ التنظير للموضوعية العلمية.

ليس المعرض سوى عملية إخراج لجزء من تراث روش إلى الجمهور، فنفس المؤسسة التي تنظّمه تخزّن أعمال الأنثروبولوجي الفرنسي ومقتنياته ووثائقه. وإذا كان روش أراد أن يعطي الكلمة لموضوع الأنثروبولوجيا، فإن هذه الكلمة بعد تسجيلها تعود مرة أخرى إلى قواعدها في باريس، حيث يجري تصنيفها و"إخراجها".

المساهمون