ديتر هالر: الإثنولوجيا والمتوسط والحقبة النيوليبرالية

ديتر هالر: الإثنولوجيا والمتوسط والحقبة النيوليبرالية

12 نوفمبر 2017
(ديتر هالر، في "متحف روح أفريقيا"، مدينة إيسن الألمانية)
+ الخط -

يمثل مشوار الأنثروبولوجي الألماني ديتر هالر (1962) محراراً لتحوّلات العلم الذي يشتغل ضمنه، إذ تنتقل اهتماماته من المواضيع المكرّسة لقرنين، مثل معتقدات الشعوب "البدائية"، إلى مواضيع راهنة مجالها الميداني المجتمعات الحديثة، خصوصاً تلك التي تحتك فيها الثقافات.


■ كأنثروبولوجي يهتم منذ عقود بالمنطقة المتوسطية، ما الذي يعنيه المتوسط بالنسبة لك؟ وهل ما زال للمنطقة المتوسطية أهمية في عصر العولمة؟

- يمتلك المتوسط، كما في السابق، أهمية كبرى في عصر العولمة، فهنا تلتقي، وبشكل لا مثيل له، خطوط الصراع المركزية في زمننا. لنستحضر فقط التطورات الأخيرة التي عرفها هذا القرن. اليونان نموذج لعملية تدمير الشخصية الوطنية عبر الهجوم النيوليبرالي. والعديد من المناطق المتوسطية مثل كتالونيا وشمال إيطاليا ومنطقة الريف بشمال المغرب تشير إلى تراجع السلطة المركزية، وفي ليبيا لم تعد هناك دولة تستحق هذا الاسم. والثورات العربية أظهرت أنه يمكن التخلص من الأنظمة السلطوية. وأما الاتحاد الأوروبي، فيفتقد الذكاء المطلوب للتعامل مع شرق وجنوب أوروبا. وهنا يظهر الوجه القبيح لأوروبا، التي تعمد إلى إغلاق حدودها وتريد أن تحوّل بلداناً مثل تركيا وليبيا وتونس والمغرب إلى حرّاس لها، من أجل حمايتها من اللاجئين. إنهم اللاجئون الذين ساهمت في ظهورهم أوروبا أيضاً بسبب سياستها الاقتصادية في أفريقيا. لكن المسؤولية لا تقع على عاتق أوروبا لوحدها، فالصينيون أيضاً مسؤولون عن ذلك، والروس والأميركان. كل ذلك يظهر أن المتوسط أصبح مختبراً للمشاكل الدولية الراهنة.


■ نشرت كتاباً إثنولوجياً عن مدينة طنجة المغربية، والذي يمكن قراءته كنقد للحداثة أيضاً. ما الذي تعنيه هذه المدينة بالنسبة لعملكم الإثنولوجي؟

- موضوع حياتي الأكاديمية هو الحدود. في الثمانينيات من القرن الماضي، اشتغلت على الحدود بين الأجناس في إسبانيا، وفي التسعينيات على الحدود القومية والاقتصادية في جبل طارق، وفي طنجة منذ عام 2013 أهتم بالحدود الأنطولوجية بين الغرب والإسلام. بداية البحث كانت حول زاوية الحمادشة وتقديسها للجن، والتي تبدو شيئاً عجائبياً بالنسبة للنظرة الغربية، كما بالنسبة للعديد من المغاربة "المتنورين" أو السلفيين. إن الحمادشة يطلبون التصالح مع الكائنات الخفية، في حين ينظر المستغربون والسلفيون إلى ذلك على أنه مجرّد ترهات. وفي الوقت الذي يعمل السلفيون مثلاً على رسم الحدود بين عالم الجن وعالم البشر، يحاول الحمادشة التصالح مع الجن. إن طنجة، وبالنظر إلى ذلك، هي حقل آخر، يسمح لنا، وبشكل نموذجي، ببحث قضية الحدود، الخطوط فاصلة، مناطق العبور (التناقضات). أنا نفسي، كنت محظوظاً لأني ولدت وترعرت في أسرة "غير متعلمة"، كانت منفتحة أمام التناقضات ومناطق العبور وأشكال الغموض، ولم تكن تعتقد بمنطق الحدود الواضحة. إنه أمر أثر في نفسي كثيراً. وبغضّ النظر عن ذلك، فإن طنجة مدينة سحرية، تحكمها الريح والتيارات البحرية، وتجمع بين أوروبا وأفريقيا والأطلسي والمتوسط، بتاريخ متعدد، تعايشت فيها أديان ومعتقدات مختلفة. إنها دليل ساطع على أن الثقافات المختلفة يمكنها أن تتعايش فيما بينها.


■ في كتابه "مهنة الأنثروبولوجي"، يرى مارك أوجيه بأن "التوتر بين المعنى الاجتماعي والحرية الفردية يمثل أهم موضوع بالنسبة للرؤية الأنثروبولوجية، والموضوع النهائي وهدف عمل الأنثروبولوجي". من هذه الزاوية، كيف تنظر إلى عملك؟

- نتوفر في "جامعة بوخوم" على تخصّص يحمل عنوان - وهو ليس بالضرورة موفقاً - "الثقافة، الفرد والمجتمع". يتمحور هذا التخصّص حول ضرورة الجمع بين الفرد والمجتمع والثقافة. واليوم في حقبة الفردية، يبدو مثل هذا التخصّص تقدمياً، لأن النيوليبرالية تريد أن تقنعنا ومنذ عشرين عاماً بعدم وجود مؤثرات ثقافية أو مجتمعية. إذ يتم رفع الفرد وغرائزه إلى موقع السلطة الحاسمة في المجتمع، في حين يتم رفض كل المؤثرات الأخرى. لقد كان الأمر مختلفاً في الماضي. في عقد الثمانينيات كان المجتمع والثقافة كل شيء، والفرد لا شيء. اليوم انقلبت الآية، بل هناك زملاء يرون أن مفهوم الثقافة أصبح لاغياً. بالنسبة إليّ، أريد المحافظة على توازن، مثل أوجيه، بين البعدين، وذلك ليس لأسباب أيديولوجية، بل لأن نتائج أبحاثنا الإثنولوجية تقول ذلك. إن الأفراد ليسوا مكتملين، بل هم، وإلى حد كبير، نتاج للثقافة والمجتمع. ومن يريد استعمال هذا البعد ضد ذاك، ينتهي لا ريب إلى العبث.


■ بالنظر إلى انتشار الشعبوية في أوروبا وليس في ألمانيا فقط، هل تعتقد بأن بإمكان الإثنولوجيا توضيح هذه الظاهرة؟

- الإثنولوجيا غير قادرة للأسف على توضيح ذلك، لسبب بسيط هو أن المعرفة الإثنولوجية هي هبة بحث ميداني طويل وعلى عين المكان. إننا نحتقر التفسيرات الكبرى والفوقية، ونطوّر معارفنا رفقة البشر وليس حولهم. وهنا يتوجب أن نؤكد أننا لا نملك أبحاثاً ميدانية حول الأوساط الشعبوية. طبعاً هناك بعض الاسثتناءات مثل ما قدّمه كاتلين ستيوارت حول White Trash في الولايات المتحدة الأميركية وفي فرنسا قدّم ديدييه إريبورن وإدوارد لويس أبحاثاً مهمة في هذا المجال. لكن كما قلت إنها استثناءات. لماذا؟ يعود الأمر بالنسبة لألمانيا إلى أن الإثنولوجيين الألمان يعملون في مناطق خارج أوروبا، ونادراً حول بلدهم. ولهذا أعتقد بأنه يجب أن تكون مهمة باحثين من دول أو مناطق أخرى، مثل الإثنولوجيين العرب للعمل على مثل هذه الظاهرة في ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وخصوصاً في المناطق التي "يؤلمهم"، وأعني أمثلة "حزب البديل من أجل ألمانيا"، الجبهة الوطنية الفرنسية، أنصار ترامب. إنني متأكد أن النظرة من الخارج تساعد على معرفة أكبر بما يحدث في الداخل.


■ كيف يمكن للإثنولوجيا أن تصالحنا مع الآخر والغريب؟

- إن الإثنولوجيا هي علم الآخر، الغريب. إنها تحاول تسليط الضوء على أمور غريبة عنا. فالغريب هو مركز البحث الإثنولوجي: لماذا الآخرون هم هكذا؟ وطبعاً بدون تقييم أخلاقي أو معياري. سيكون جميلاً لو أن نظرة الإثنولوجي تكون متعددة وليست أوروـ مركزية، بحيث يتم طرح السؤال من وجهات نظر مختلفة. أدافع عن ضرورة أن يقوم باحثون عرب وأفارقة وصينيون بدراسة واقع الأوروبيين والأمريكيين، ولكن عبر أبحاث ميدانية طويلة. إنه يتوجب على العرب مثلاً أن لا يكتفوا بتقييم بعض ما تقوله الإحصائيات عن أوروبا، بل أن يبحثوا عوالم الحياة الأوروبية بشكل محسوس.

المساهمون