كتالونيا من منظور ثقافي

كتالونيا من منظور ثقافي

10 نوفمبر 2017
(تمثال رامون يوي بجزيرة مايوركا، تصوير: هولغر لووي)
+ الخط -

حين وصلت برشلونة، صيفَ 2012، كان في ذهني فقط أنها أهمّ ميناءٍ في إسبانيا، وحاضرة الإقليم الأغنى من بين سبعة عشر إقليماً تضمّها مملكةُ الدون سيرفانتِس.

بعد شهور، طُلبت كلمة مقتضبة لأقولها في حفل التقديم، فقرأتها بكل عفوية وبراءة، وفيها شكر "لهذا الشعب الجميل".

عرفت بعد سنة من ذلك المساء في معهد الفنون، آخرَ شارع الرمبلا، أن وصفي للكتالان بـ"الشعب"، جعَلَ أحدَ سياسيّيهم، وكان حاضراً، يمدّد برنامج استضافتي من عام إلى عامَين ونيّف. كنت بريئاً براءة الجهل التام، وهم التقطوها كبراءة ملغومة وموقف. وعليه، كوفئت من حيث لا أحتسب، ولا أستحقّ!

ولعلّ هذه المفارقة الطريفة، تصلح مدْخلاً للحديث عن خصوصية شعب، يتمتع ـ مثله مثل أي شعب آخر ـ بمجاله اللغوي الخاص، وبه "جوع" إلى إثبات هويته الوطنية ولمّ شتاتها ما بين الأقاليم.

فمنذ رامون يُوي، اللاهوتي والفيلسوف والشاعر و"الدرويش" ـ (ولد ومات في جزيرة مايوركا)، صار بالإمكان الحديث عن لغة كتالانية لها نحوُها وصرْفها وفقهها المكتوب، مثلما لها مدوّنة أدبية بزغت وما تزال تنمو وتكبر محيطة كالسوار بكتالونيا.

مات مؤسس وأبو اللغة في 1316، وقبل أيام فحسب، اعتقلت مدريدُ الناشط جوردي كويسارت، رئيس جمعية "أومنيام" للحفاظ على اللغة والثقافة الكتالونية.

ثمة سبعة قرون من الزمن تفصل بين وفاة أبي الكتالان، واعتقال أحد أحفاده سياسياً. زمن طويل، لا يبرز منه للبعيدين، غير رأس الجبل العائم.

[فضّلنا هذا الربْط، لأن لا شيء مفصولاً عن غيره. فالثقافة جزء من السياسة، ولو كرِهَ المثقفون].

وأنا، حالما صرت معنياً بالأمر، استحوذني البحثُ والتنقيب. تذكّرت مكتبتي هناك، فلم تسعفني الذاكرة بكتاب مُترجم عن الكتالانية. حتى الأدباء الكتلان الذين قرأنا لهم، كانوا يكتبون باللغة القشتالية، ومثالهم الأشهر عربياً هو الروائي الراحل خوان غويتيسولو.

لذا كان لا مفر من الاعتماد على الحواس: الاحتكاك اليوميّ والمعايشة.

وضمن هذا القوس، لم يتأخّر بي الزمن طويلاً. ففي كل يوم، سواء بالجلوس إلى العوامّ أو الخواص، يشرعُ جبلُ الجليد في الانحسار والتّكشّف. وما تحتاج إلى وقت مديد كي تستخلصه من العوام، ربما يُلخّصه لك شاعر أو روائي أو ناقد في سهرة أو اثنتَين.

مع الأيام، صادفت كتالانيين يجرحُهُم هذا الحديث. ومن غير واحدٍ منهم فهمتُ أنني أمشي في حقل ألغام. فالموضوع جِدّ حساس، وهم لا يستسيغون الخوض فيه. ذلك أن 48% من سكان كتالونيا حالياً، هم من أصل إسباني. إذ شهِدت ستينياتُ وسبعينات القرن الماضي، موجات نزوح ضخمة من أندلوسيا، غاليثيا وليون، لعدم توفّر عمل في تلك المناطق.

والآن يعودني قولُ شاعرة من أنها: "كتالانية داخل إسبانيا، إسبانية في العالم، نقطة وأول السطر".

أما غيرهم، من دعاة الخصوصية التي تُحيل ـ لا مناص ـ على حلم الاستقلال، فقد بدوا مُتحمّسين في إعطاء صورة بانورامية للمشهد منذ ألف سنة.

ولا أنسى قولة الأكاديمية والناقدة كارما أريناس (وكنا يومها في زيارة إلى لشبونة) : "لا يندر أن يجتمع الأدباء الكتلان والإسبان في ندوة أو مهرجان ثقافي، فيتضاربون بالأيدي"!

اليوم، بعد سنوات من الإقامة بينهم وقراءة بضع أنطولوجيّات، بالمستطاع تلمّس الفروق بين الثقافتين الإسبانية والكتالانية. مع الحرص على إبداء الحذر، وعدم الجنوح نحو استخلاصات عامة، قد لا تعتورها الدقة ولكن تعوزها التفاصيل.

عليه، لا يجانبنا الصواب لو قلنا إنّ ما يميّز الثقافة الكتالانية منذ قرن ونصف على الأقل (وليكن هذا الزمنُ مدار حديثنا)، لهُو تأثّرها وانفتاحها الأوسع على الثقافة الأوروبية: باريس على نحو خاص، وتالياً لندن، ومن بعدُ روما.

لن تجد هذا التأثر في مدريد مثلاً ولا حتى في أقاليم الشمال الإسباني كغاليثيا وبلاد الباسك ونافارّا وأستورياس.

ولعل السبب واضح. فبالإضافة إلى الجوار الجغرافي والنسَب اللغوي المتين مع اللغة الفرنسية (لغة البروفانس، هي أحد جذور الكتالانية)، فباريس كانت مركز إشعاع ثقافي ومُصدّرة لآخِر صرعات الحداثة، والاتجاهات الجديدة في الفنون والآداب، في تلك الحقب.

لقد عرف الفنانون الكتالان بالأخص، باريسَ والهجرةَ إليها ثم العودة، منذ أواخر القرن الثامن عشر. وزادت أفواج تلك الهجرات مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حتى النصف الأول من القرن العشرين، تقريباً.

أتكلّم هنا وعيني على الفن التشكيلي والنحت بالدرجة الأولى، يعقبُهُ الشعر، والموسيقى والمسرح، ربما أكثر من الحقول الأخرى.

على أننا لا نستطيع الحديث عن الحداثة الكتالانية دون ذكْر حَدَثَين مفصلِيّين، كان لهما الفضلُ تاريخياً في التأسيس لما وصلت إليه ثقافتهم من تنوّع وانفتاح وتجاوز للمواضعات.

الأول هو: إقامة المعرض الدولي في برشلونة (1888). حيث عُرضَ جديدُ العلْم والهندسة والاختراعات في غير مجال.

والثاني هو: المعرض الصناعي الذي أُقيم عام 1929 في برشلونة أيضاً، ولا يزال جزء منه قائماً إلى اليوم، للذكرى.

وهذا المعرض الشهير، أدخل إسبانيا كلَّها إلى العصر الحديث، وقام على معروضات جناح برشلونة الكتالانية بالأساس (شارك فيه، بالمناسبة، المعماري غاودي).

قبله وأثناءه وبعده، بقيت برشلونة مستقرّاً ومحجّاً لكبار المثقفين الإسبان واللاتينيين، من مالغا (مالقة في اسمها العربي) جاءها بيكاسّو، وتأسّس كرسّام في أحيائها العتيقة وأُفق حريّتها الشاسع مدةَ خمس سنوات. إلى لوركا القادم من غرناطة في إقامات تطول وتقصر مع صديقه سلفادور دالي. ومن أنطوني غاودي إلى خوان ميرو إلى ماركيز ويوسّا وميندوثا وغاليانو وبولانيو، وغيرهم.

فواتح القرن العشرين، حتى ما قبل الحرب الأهلية، شهدت برشلونة طفرتها الذهبية في الآداب والفنون، وفي التحرّر الاجتماعي، معاً.

تاريخ طويل استمر منذ ذلك الحين. تاريخ مفاده ـ باختصار مُخلّ ـ أن الكتالان أقرب إلى أوروبا من الإسبان، رغم حضور الجانب المتوسطي في شخصيتهم، أيضاً.

والحق أنها شخصية مركّبة تحتوي على طبقات من الحاضر والماضي.

وهذا لا ريب ينعكس على مدوّنتهم الأدبية، لا بمعنى الاستلاب أمام الثقافات الأوربية الكبرى، بل بمعنى اختلاف المدونة ـ بخصوصياتها ونزوعها العتيد إلى التحديث ـ عن المدونة الإسبانية بعامة.

أما موجة الازدهار الثانية، فأعقبت موت فرانكو مباشرة. حيث شُرَّعَ لهم الحق في استخدام لغتهم والكتابة بها. فأسّسوا البنى التحتية الوازنة (لعلها الأفضل في المملكة) لحراك نشِط بعد كبت طويل.

صار الإنتاج الثقافي والفني يتلقّى دعماً من البلديات وحكومة الإقليم. وبما أنهم أغنياء، فقد صرفوا بسخاء على هذا الجانب. واليوم تبدو برشلونة، بمئات شعرائها وفنّانيها وسارديها، موئلاً ديناميكياً للفن والموسيقى وصناعة النشر في إسبانيا وأميركا اللاتينية. إنها تذكّرني، على نحو ما، بأمجاد بيروت الآفلة.

المساهمون