مفكرة المترجم: مع أحمد م. أحمد

مفكرة المترجم: مع أحمد م. أحمد

10 أكتوبر 2017
أحمد م. أحمد
+ الخط -
تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. هنا وقفة مع المترجم السوري أحمد م. أحمد الذي يرى في لقائه مع "العربي الجديد" أن المترجم مؤلف وأن معظم ما ترجمه جزءٌ من تكوينه.


كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- بدأتُ الترجمة منذ أواخر الثمانينيات. كنت ما أزال طالب سنة ثانية في قسم الأدب الإنكليزي. أعطاني أحد المترجمين كتاباً لا يحتاجه، يضم قصصاً مختارة من ثقافات الهند. فترجمتُ قصصه واحدة بعد أخرى، ونشر معظمها فيصل دراج في مجلة "الهدف" التي كانت تصدر في دمشق آنذاك، وفي مجلات أخرى. ثم توالت ترجماتي في المجلة ذاتها، بعضها كان بتكليف من فيصل، وبعضها الآخر مما وقعتُ عليه من كتب مجانية أو اشتريتها بأسعار زهيدة عن بسطات الكتب على أرصفة دمشق. ما بقي لدي من ذلك الأرشيف القديم ضمّ ترجمات لي في "النداء"، و"دراسات اشتراكية"، وسواهما.

ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- آخر ما نشرته من كتب مترجمة حتى اليوم، كان "مقدّسات ومحرّمات وحروب"، للأنثروبولوجي الأميركي مارفن هاريس. صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". وقبله "مع بورخيس" و"المكتبة في الليل" لـ ألبرتو مانغويل وقد صدرا عن "دار الساقي". أترجم الآن رواية كبيرة لـ بول أوستر، إلى جانب إكمال مختارات لـ ديريك والكوت، وكلاهما لـ"دار المتوسط"، بالإضافة إلى ترجماتي الشعرية لـ"العربي الجديد" و"ضفة ثالثة".

ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟

- أواجه عقبات مع المصطلحات. هناك علوم وأفكار أنتجها الغرب ومصطلحاتها جديدة على الثقافة العربية، كالمصطلحات المتعلقة بالتكنولوجيا، وحتى مصطلحات أخرى تتعلق بالأنثروبولوجيا والدراسات الاجتماعية. أقف حائراً أحياناً، على سبيل المثال، حين تواجهني كلمة بسيطة مثل Gender، والاشتقاقات المولّدة منها: هل سيفهم القارئ العربي فيما لو ترجمتُها بـ"الجنس" أن القصد هو التصنيف بحسب جنس الإنسان، أم سيفهمها على أنها الجنس Sex. كما أن أسماء الموجودات مشكلة أخرى. فأنا حتى الآن لم أعرف الاسم العربي من كلمة واحدة، للمصباح العمودي الذي يوضع على طاولة قرب السرير، ولم أعرف ما اسم تلك الطاولة الصغيرة. فهل من يرشدني؟!

هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- لا أعترف بالمحرّر. ربما يحتاج أحدنا إلى قارئ، عين ثالثة قد ترى ما غفل المترجم عنه، وتتنبه لهفوة لغوية، أو ضبابية في عبارة ما. هناك من حرّر كتاباً من ترجمتي، واعترض على ترجمتي لعنوانِ كتابٍ شهير مترجَمٍ إلى العربية منذ عقود. كنتُ قد اعتمدتُ العنوان الذي تبناه المترجم المصريّ، وأراد المحرّر استبداله بالعنوان الذي حمله الكتاب ذاته في ترجمته اللبنانية.
أرى أن المترجم مؤلِّفٌ آخر، وله روح سينفثها في تضاعيف ترجمته، وعلى الأخصّ الترجمة الأدبية، لذلك لم يكن ليريحني تغيير كلمة واحدة في ترجماتي للشعر والرواية، ولا أجد مشكلة مع مراجِعٍ لكتابٍ فكريّ يكاد يتجاوز حقل اهتماماتي وثقافتي.

كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- لأن علاقتي بالناشر في الغالب علاقة مباشرة، وجهاً لوجه، أو هاتفياً، أستطيع اختيار عنوان من قائمة، أو يتواصل معي ويسمّي لي الكتّاب والعناوين، ويترك لي الاختيار. ومعظم مَن أتعامل معهم الآن من الناشرين يعرفون حقول الترجمة التي تهمّني، والتي أحقق النجاح إذا قُدِّرَ وكنتُ المترجِم لها، لذلك لا أفاجأ الآن برسالة إلكترونية من ناشر يقول فيها: "هذا العمل لك.. يشبهك" يذيّلها بوجه ضاحك، ويرفقها بملف PDF لكتاب جديد. علاقتي جيدة مع معظم الناشرين. لم يحدث خلاف على مكافأة الترجمة أبداً، وحتى لو شعرتُ بأن الأجر أقلّ مما يجب لصعوبة الكتاب، أبقى سعيداً لأنني في ترجمته اكتسبتُ معرفة جديدة، ولأنني "رزقتُ" بطفل جديد.

هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- أنا من مواليد ستينيات القرن الماضي، وربيب، وصديق، التيار العام لليسار العربي دون أن أكون عضواً في أيّ حزب من أحزابها على الإطلاق، لذلك يصعب عليّ التعامل مع أعمال ما قبْلية، أو يمينية، أو متشدّدة. بأي معنى من المعاني. إذا أردتُ النظر (سياسياً) إلى مؤلَّف ما، فسأختار ذلك الذي كتبه ليبرالي، أو ماركسي أوروبي أو أميركي، أو على العموم، الذين يتبعون المنهج المادّي في أبحاثهم. أضيف، وأنا الآن في مكاني السوري والعربي، بأنني لن أختار كتاباً يوصلني إلى أقبية فروع أمن هذا النظام، أو يؤدي إلى القبض عليّ في مطار عربي ما، بتهمة يعرف الجميع طبيعتها.

كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- باستثناء اتصالي الهاتفي بالشاعر الأميركي تشارلز سيميك، لتهنئته بعيد ميلاده السبعين حين كنتُ في أميركا، لم يكن هناك علاقة مع هؤلاء الكتّاب. هناك علاقات فيسبوكية وتواصل عبر البريد الإلكتروني مع بعضهم، لا أكثر. هناك علاقة معرفة شخصية مع روائي أميركي لم أُنه ترجمة كتابه بعد.

كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- كتبتُ مجموعة قصصية قبل أن أترجم حرفاً واحداً. وعلاقتي بالثقافة والفكر علاقة قديمة تعود إلى الطفولة المبكرة. وأظن أن أهم المترجمين هو (الكاتب/المترجم). وقد أتطرّف في القول إنه لا يعجبني عمل أدبي لم يترجمه كاتب أو شاعر. أحتفظ في مكتبتي الشخصية بترجمات الشاعر الراحل بسّام حجار، وجبرا إبراهيم جبرا، وممدوح عدوان، وترجمة بديع حقي لطاغور، وآخرين. وفي ترجمات الفكر أقتني كتب المترجمين الذين تربطهم علاقة مزمنة بالفكر والتاريخ. وعن علاقتي، ككاتب، بما أترجمه، أستعير ردّي في لقاء معي نُشر على شبكة "جيرون": "..أفهم أن هناك DNA للمؤلِّف الأصلي، وDNA للمترجم، وبقدر ما يتعارف حمضاهما النوويان يكون النص المترجَم خلاقاً... أعتبر معظم ما ترجمتُه جزءاً من تكويني، أعطيته وأعطاني، ونسغ كلٍّ منَّا يجري في نصِّ الآخر..".

كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- هي جوائز على درجة عالية من الأهمية. الثقافة العربية الآن عاجزة عن النهوض بمشروع ناجز، نظراً لما نعرفه عن فقدان هذا العالم لهويته. من هنا تأتي أهمية الترجمة كبديل، أو متّكأ، أو "خريطة طريق" لهذا الكيان الممزّق الذي يسمى "ثقافة عربية". الفعل الثقافي الأكبر يأتي من خلال الترجمة. وترجمة أمهات الكتب الغربية ضرورة قصوى. لذلك أتمنى أن تتزايد جوائز الترجمة وتتعدد حقولها، لتشمل كافة فروع المعرفة والآداب والفنون، بل أن تكون هناك جوائز أخرى، ليس على صعيد العالم العربي وحسب، بل في كل بلد عربي، وجوائز تشجيعية في كل مدينة عربية تُموّل من قبل المنظمات الأهلية والحكومية على السواء.

الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- دون انتقاص من قيمة المشاريع الفردية، أؤمن بمشاريع المؤسسات، بل المؤسسات الكبرى، العملاقة. وأخصّ منها تلك المستقلة التي لا تتبع إيديولوجيا بعينها، أو سياسة الدولة المموِّلة، إذ لا بدّ من تمويل لضمان استمرارها ونجاحها.
أحترم هذه المؤسسات. أنحني لمشاريع الترجمات التي قام بها "المركز القومي للترجمة"، و"المنظمة العربية للترجمة"، و"مركز دراسات الوحدة العربية"، وأخيراً، وهو الأهم الآن بشموليته واستقلاليته، "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".

ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

- اعتدتُ أن أبدأ بعميلة معقّدة أسميها: تَشَرُّب النص، قراءته، تَمَثُّله، وتخيُّل أمزجة مؤلِّفه إذا كان شاعراً أو روائياً؛ ثم الغوص في طبقات النص إلى جانب البحث في الشبكة عن عوالم الكاتب وبعض آرائه. ثم أصغي إلى الصوت، الصوت العميق لدخيلة النص الأدبي، وحين ألتقط هذا الصوت، أتوجس بدايةً من افتتاحية هذا النص، وحين تومض، أمضي بلا توقف حتى أنهي القصيدة. كان ذلك قبل أن يبدأ الرصاص، قبل أن تعمّ الفوضى والموتُ الشارعَ، والمدينة، والبلاد التي أسكنها. في السنوات الأخيرة أشتغل قرب شبّاك يطل على الجحيم، وهذا بمثابة اعتذار عن كلّ نصٍّ لم أقدّمه كما يجب، كما أريد.
وفي الرواية أقوم بالفعل ذاته، لكن على فترات متقطعة. وأما في كتُب الأبحاث، فإن الأمر يختلف كلياً، ولا يتسع هذا المقام لقوله.

كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- ندمتُ في الآونة الأخيرة على ترجمة مستعجلة لأحد الشعراء الذين أحترمهم للغاية. كنتُ مصاباً بنوبة ارتفاع توتّر شرياني واكتئابٍ قاتل. أعتذر منه، ومن الناشر، ومنّي أنا أيضاً. لن أسمي الشاعر، لعلني أصلح الأمر في نصوص قادمة له.

ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- أتمنى أن تتكاثر الترجمات إلى العربية وفق متوالية هندسية. أتمنى أن تتضخم المؤسسات الداعمة، كي تتيح لقاعدة القراء العرب أن تتسع، لكي نخرج من معدّل القراءة العربية المذلّ وهو، حسب تقرير اليونسكو لسنة 2011: ستّ دقائق للعربي في العام، مقابل 200 ساعة للأوروبي. أنتجت الدول العربية 6500 كتاب عام 1991، بالمقارنة مع 102000 كتاب في أميركا الشمالية، و42000 كتاب في أميركا اللاتينية والكاريبي. أحلم، شخصياً، بأمانٍ اقتصادي يمكنني من الخروج من سورية إلى أي مكان آخر أستطيع فيه إنجاز جدول ترجماتي المتزايدة.


بطاقة: 
ولد أحمد م. أحمد في سورية عام 1965، وتخرّج من كليّة الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة الإنكليزية، في جامعة دمشق. عاش سنوات في الولايات المتحدة قبل أن يعود للاستقرار في طرطوس حيث يعكف على عمله في الترجمة.

تحت توقيعه مُترجماً نجد: "رجل في الظلام"، بول أوستر (2010)، "العالم لا ينتهي"، تشارلز سيميك (2010)، "مع بورخيس"، ألبرتو مانغويل (2015)، "المكتبة في الليل"، ألبرتو مانغويل (2015)، "ذلك الشيء الصغير وسيد التبديات" تشارلز سيميك (2015)، "مقدسات ومحرمات وحروب"، مارفن هاريس (2017).

أما كتبه التي وضعها قاصاً وشاعراً فهي: "جمجمة الوقت"، قصص 1993، و"أحرق سفنه إلا نعشاً"، نصوص 2014، وسيصدر له قريباً كتاب نصوص بعنوان "أصيد طائر كوليريدج".


المساهمون